استمع إلى الملخص
- يبرز الفيلم استخدام العيطة كوسيلة للتعبير والتحرر، معالجًا تحديات تودا في مجتمع لا يقدر طموحها الفني ومواجهتها للواقع القاسي.
- على الرغم من لحظاته البديعة، يواجه الفيلم تحديات في السرد والإبداع، مثيرًا تساؤلات حول الصراع بين الأصالة والتحديث في عالم متغير.
توقّعات كبيرة أحاطت بإعلان مشاركة "الجميع يحبّون تودا"، للمغربي نبيل عيوش، في قسم Cannes Premiere، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2024) لمهرجان "كانّ". فيلمٌ طويل عاشر لمخرج "علي زاوا" (2000) و"يا خيل الله" (2012)، اللذين شكّلا محطتين بارزتين في السينما المغربية في القرن الحالي. في جديده، يتعاون للمرة الأولى مع الممثلة المغربية نسرين الراضي، مؤدّية دور البطولة في أول فيلم لرفيقته مريم التوزاني "آدم" (2019)، والأخيرة تشاركه كتابة السيناريو.
ملخّص يَعد بانكبابٍ على إرث ثقافي غنيّ، يرتكز على ثنائيّة الشيخة والعيطة. هذا المعطى الأخير حاضرٌ في لوحات مكتوبة تفتتح الفيلم، تربط ماضي العيطة والشيخات بثقافة معارضة السلطة، والوقوف في وجه الطغاة من القادة المحليين، وكيف أنّ هناك نساءً معاصرات يحاولن استلهام هذا الإرث ليجعلن من العيطة وسيلة للاسترشاد والمطالبة بحقوقهن.
لا يتأخر الفيلم عن وضع المُشاهد في قلب أجواء هذا التراث الشعبي، بمشهدٍ افتتاحي لحفل ضيّق (يطلق عليه "قصارة") في الهواء الطلق، تحييه تودا (الراضي) وسط الغابة، برفقة مجموعة رجال. مسحة من الحدّة "الفوفية"، تعكسها طريقة تصوير، تلتقط تفاصيل الشبقية الكامنة، التي ترافق غناء تودا من بين الأرجل المتشابكة بالرقص، والغبار المتصاعد، والخمر المتدفّق في الحناجر. وسيلة موفّقة في وضع المشاهد في قلب أجواء التحرّر، والتلميح للرغبة الجنسية التي تشكّل وجهاً آخر لعملة العيطة، وجزءاً لا يتجزأ من قوّتها الانتهاكية للتقاليد المرعية، السياسية والاجتماعية.
تتعرّض تودا لاغتصاب وحشي، يُصبح امتداداً لأجواء المشهد، فتخرج إلى الطريق في وضع مزرٍ، ليتلقّفها شيخ في شاحنته، ويسألها عمّا إذا كانت تحبّ أنْ يُشغّل لها موسيقى، فتهزّ رأسها بالرفض، في لمحة رائعة لوضع امرأة شغوفة بالموسيقى، وما تعرّضت له للتّو ينبئ بشرط رُزوح تحت ممارسات رجولية تقهرها، وتحدّ من قدرتها على بلوغ طموحٍ، لا تتأخّر في إعلانه صراحة: أنْ تصبح شيخة ملمّة بغناء العيطة الحقيقية، بعيداً عن القرية الصغيرة التي تعيش فيها مع طفلها الأبكم (جود شامحي)، في غياب تام للأب.
ما يلي أقلّ رهافة من نموذج لقطة الشاحنة، إذْ يغوص الفيلم في حكي مُكرّر، يكاد يراوح مكانه، أو يدور في حلقة مفرغة إلى حدّ ما، قوامه سعي تودا للإفلات من قبضة الحانات القروية، حيث ينحصر دورها في غناء مقطوعات شعبية تروّح عن الزبائن، أو تغريهم بالشراب، لقاء نسبة من مبيعات زجاجات الجعة. معضلة الشخصية الرئيسية وقوعها في وضعٍ مهني صعب وغير مُرضٍ لطموحها، وتربية طفل لا مدارس متخصّصة تتكفّل بتعليمه. منفذها الوحيد لحظات متعة تمضيها في فراش شرطيّ، تجمعها به علاقة جاذبية ونفور.
"الجميع يحبّون تودا" فيلمٌ بوجهين: أحدهما مؤثّر بإنسانيته، يدين بالكثير للأداء السخي لنسرين الراضي، خاصة في مشاهد الالتحام بالغناء كنوعٍ من التطهير لما تعيشه من صعوبات في حياتها، ولحظات توحّدها مع صبيها في حوار الإشارات، واللهو والقبل الحانية. والآخر حبكةٌ بحبال غليظة، تحدّ من تعاطفٍ مع سعي الشخصية الرئيسية لفرض رغبتها في ممارسة عيطة أصيلة، وبلوغ مرتبة شيخة مُعترف بها، خصوصاً أنّ هذا الطموح يتطوّر بقدرة قادر إلى طمع في أداء "روميكس" عصري يُلهي علية القوم، في طوابق "ستراتوسفيرية" لفنادق فاخرة.
بإشارة ذكية، يربط صوت المصعد ذلك بنوعٍ من الارتقاء. أي إنّ ما أعلن عنه في المقدمة، باعتباره فنّاً مناوئاً لكلّ أشكال السلطة والمال (خصوصاً في مغرب اليوم، حيث يمتزجان بشكل أكثر فتكاً من أي وقت مضى)، يغدو تمسّحاً بالأغنياء والحفلات المخملية، أو إنّ ترفيه الفنان على النافذين أعلى شأناً من ترويحه على أهالي القرى.
قبل ذلك، ترحل تودا إلى الدار البيضاء، في إعادة وصل مع مجرى حكي تقليدي في السينما المغربية، يحمل فيه البطل آلامه وآماله من القرية إلى المدينة، اضطلعت بموجبه العاصمة الاقتصادية بنصيب الأسد من القصص. يقدّم الحوار الدار البيضاء غابةً لا رحمة فيها و"لا تتوقّف فيها سيارات الأجرة"، وفق مبالغة تمتّد من الإضاءة إلى الديكور، تعكس تمثّلاً غرائبياً، لا مبرّر له، يضرّ كثيراً بصدقية بعض أعمال عيوش. تفاصيل تُذكَر لأنّ هذا الأخير يعضّ بالنواجذ على طابع واقعي جاف وصلف، لا مكان فيه لأي قراءات أخرى. حتى عندما تأخذ أجواء مشهدٍ، يجمع تودا بعازف الكمان وسط دار بيضاء ليلية وشبحية، يُعتَقد أنّ المدرّب علّق كمانه وانتقل إلى الجانب الآخر من المرآة، خصوصاً أنّه أسَرّ في مشهد سابق أنّه يحسّ باقتراب موعده مع الموت، سرعان ما يعود الحكي إلى طبيعية خطية رتيبة وملتصقة بنموذج كتابة، نحسّ أنّه محسوم سلفاً.
هذا بعيدٌ عن طابع "علي زاوا"، الحالم بعالمٍ آخر ممكن، تعكسه اللوحات المتحركة؛ أو غنائية "يا خيل الله"، التي تلامس الميلودراما مُكثِّفةً خيبة الشخصيات، وانسداد الأفق التدريجي في وجهها. يناوب المخرج بين أفلام مع ممثلين محترفين وممثلين غير محترفين، لكنّه يفتقر في الحالة الأولى إلى رؤية الفضاء بعيون الشخصيات، فيغيب عنه استثمار الأماكن الأصلية والحقيقية التي يعيشون فيها، كفضاء "نجوم سيدي مومن" في "علّي صوتك" (2021) والأحياء الهامشية في "علي زاوا" مثلاً، فيسقط في نظرة يغدو بها سعي شخصياته منفصلاً عن الفضاء التي تعيش فيه، ويصعب بالتالي التعاطف مع مسارها. لعلّ "غزية" (2017) أبرز مثل على ذلك، إذْ يبدو في مشاهد ليلية في الدار البيضاء نسخة شبه مطابقة لـ"الجميع يحبّون تودا".
لا يمنع ذلك مشاهد بديعة تتخلّل الفيلم، كلحظة التحام تودا، في أثناء تدرّبها على الغناء، مع إيقاع أذان منبعث من مسجد مجاور، أو تمرينها على يدي عازف الكمان العجوز، الذي يبدو بقبعته البوب نسخة شعبية مغربية من بولي مدرّب رامبو. ومشهد آخر تنزاح فيه المغنية تحت ضغط المشاكل، وفراقها مع صبيّها إلى غناء شبه جاف، يحاكي المناجاة لمقطع عيطة حزينة، وسط زبائن كاباريه بيضاوي، يطالبون بأغانٍ ترفّه عنهم، فينشب نزاع بينها وبين مدير الكاباريه (عبد اللطيف شوقي، بأداء دقيق ومصيب كعادته) ترفض فيه التخلّي عن الميكروفون.
لم يفِ "الجميع يحبّون تودا" بكل وعوده، تحديداً لأنّ نبيل عيوش، حين لا يكون في أفضل حالاته، لا يكاد يأخذ أي مجازفة تُذكر، فيبدو إخراجه منقاداً بانبهار وراء سرد صارم، ومقاربة فضاء بلا روح، لا موطئ فيهما للارتعاشة التي تحيك نسيج الزمن، فتبدو أفلامه أقرب إلى مرافعة منها إلى عمل فنّي يختلج بروح الناس والأماكن.