الجاز في مصر: لا يزال الارتجال يجوب الطرقات

22 يونيو 2023
أسس فتحي سلامة فرقة "شرقيات" التي حملته إلى أغلب بلدان العالم (فيسبوك)
+ الخط -

يجد كثير من الموسيقيين مبتغاهم في موسيقى الجاز، بما تحويه من طاقات إبداعية غير محدودة، فاللون الموسيقي القائم على الارتجال، قادر على استيعاب أي مادة لحنية وإعادة إنتاجها في صورة جديدة. ضمن هذا الأمر للموسيقى الأفرو-أميركية قدرة على الانتشار الواسع في أرجاء العالم.
في مصر، كان للجاز حضوره منذ الخمسينيات، عن طريق الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، الهاربين من أجواء الاضطهاد في بلدهم. ومع دخول الستينيات، اجتذب اللون الموسيقي عدداً من المصريين الذين اهتموا بالتعرف إليه، لتبدأ حكاية الجاز الشرقي، وحكاية من ساهموا في خطّ أسطرها، مثل صلاح رجب، ويحيى خليل، وفتحي سلامة، ومصطفى رزق.

رمضان في الفضاء

درس صلاح رجب (1936 - 2008) العزف على آلة الدرامز في الولايات المتحدة. عاد بعدها لينضم إلى فرقة عازف الساكسفون الأميركي ذي الأصول الأفريقية، ماكس سبيرز. وخلال مصاحبة رجب العازف الأميركي، تعلم أصول موسيقى الجاز، ليصبح رائدها الأول في مصر.
كان رجب ضابطاً في القوات المصرية التي شاركت في حرب اليمن، وانضم إلى الجيش كذلك في حرب 1967. أصبح بعدها قائداً لفرقة الموسيقى العسكرية عام 1968. أما حكايته مع الجاز، فبدأت حين استمع صدفة إلى مقطوعة لفرقة ليونيل هامبتون، عازف الماريمبا الأميركي الشهير، كانت قد بثتها إذاعة إنكليزية عام 1954.
خلال هذه الفترة، داوم رجب نهاراً في عمله ضابطاً في الجيش المصري، لينطلق ليلاً باحثاً عن موسيقى الجاز في الكازينوهات التي تقدم هذا اللون، إذ كانت مصر في تلك الحقبة ملجأ مفضلاً للعازفين والموسيقيين الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية الهاربين من الاضطهاد العرقي في بلدهم. وعلى أثر ذلك، عرفت المسارح والكازينوهات الجاز، لينتشر في تلك الفترة بصورة ملحوظة.
الشغف الجديد في حياة رجب دفعه للسفر إلى الولايات المتحدة، بعد ذلك ليتعلم الدرامز، وعندما عاد تعرف إلى سبيرز، وانضم إلى فرقته التي انتظمت في تقديم عروضها، إلى أن بدأ الأجانب يرحلون عن مصر بكثرة، إثر صدور قرارات التأميم، لتنحل الفرقة، ويغادر سبيرز البلاد.
جاءت الفرصة لرجب في أن يؤسس فرقته الخاصة، حين عُيّن قائداً لإدارة الموسيقى العسكرية في الجيش المصري، فأتاح له ذلك التعرف إلى عشرات العازفين، ليختار منهم عشرين عازفاً، أرسلهم إلى أحد المعسكرات للتدريب على موسيقى الجاز، بالتعاون مع زميليه السابقين في فرقة سبيرز، الموسيقي الألماني هارتموت جيركن، وعازف الغيتار التشيكي إيدو فيزفاري.


من هذا المعسكر، تأسست أول فرقة مصرية محترفة للجاز، "كايرو جاز باند"، وضمت أسماء مثل خميس الخولي عازف البيانو، وسيد سلامة عازف الساكسفون، وذكي عثمان عازف البوق، لتطلق أولى حفلاتها من الجامعة الأميركية في القاهرة عام 1969.
استطاع رجب من خلال فرقته مزج الموسيقى الشعبية مع الجاز والبلوز ببراعة، مثل ما جاء في مقطوعات "مصر تتبختر"، و"رمضان في الفضاء"، و"فجر" التي أطلقها خلال حفلات قدمها خلال الفترة من عام 1969 إلى 1973.
أهّله هذا النشاط ليتصل بواحد من أهم موسيقيي الجاز وقتها، هيرمان بول بلونت، المعروف بـ"صن رع"، والذي زار مصر وعزف مع رجب مقطوعاته. وبعد حل فرقة "كايرو جاز"، انضم الموسيقي المصري إلى رع في جولة أوروبية، وسجل الاثنان ألبوماً تحت اسم فرقة The Sun Ra Arkestra. هذه السيرة الحافلة لرجب، توارت وراء اسم شهير في عالم الجاز اليوم، هو يحيى خليل.

من غير عنوان

قضى يحيى خليل (1943) 15 عاماً في الولايات المتحدة، متجولاً مع فرق الأندرغراوند في مدينة نيويورك، تعرف خلالها إلى أنواع شتى من الموسيقى، في بلد تجمعت فيه من ألوانها ما لم يجتمع في غيره، واستعمل هذه الحصيلة ليبدأ تجربته الموسيقية في مصر، لكن هذه المرة جاءت مع نجوم الصف الأول.
البداية من ألبوم "دنيا جديدة" لفايزة أحمد؛ إذ اشترك فيه عازفاً للدرامز، بعدما اقترح اسمه زميله وصديقه القديم هاني شنودة على فايزة أحمد. بعدها، أسس خليل فرقته ليطلق تجربته الأولى الناجحة مع محمد منير، "شبابيك". تولت الفرقة توزيع الألبوم، وساهم أعضاؤها، فتحي سلامة وعزيز ناصر ومايكل كويكس، بنصيب في النجاح الكبير. شجع هذا الجميع على تكرار التجربة، فكان ألبوم "اتكلمي"، وتلاه ألبوما "بريء" و"وسط الدايرة"، الذي اقترب في نجاحه من "شبابيك"، لتكون تلك التجربة هي الأهم في تاريخ الموسيقي الأشهر، حين فاز في رهانه على محمد منير، وإن كان قد خسر رهان آخر وقتها، هو عمرو دياب الذي رفض خليل تقديمه.


بعد منير، خاض خليل تجارب مع حميد الشاعري في "رحيل"، ومصطفى قمر في "لما تنامي". ومع سبعة أصوات نسائية جديدة في ألبوم "البنات"، لكن التجارب لم ترضه، لينصرف إلى مشروعه في تطويع موسيقى الجاز للتوافق مع الموسيقى المصرية. ولعل أشهر ما قدمه يحيى خليل وفق هذا الشكل، المقطوعة الشهيرة لبرنامج "حكاوي القهاوي"، وهي في الأصل مقطوعة من ألبوم له يحمل اسم "قمر". أما أشهر مقطوعاته التي نفذ خليل عبرها رؤيته لما سماه بـ"أورينتال جاز" هي: "إيقاع الروح"، و"دنيا"، و"الأمل"، و"بيانولا"، و"الغربة"، و"من غير عنوان"، و"أميرة".

لا تتسلّق الأهرامات

فتحي سلامة (1969) هو الموسيقي العربي الوحيد الحاصل على جائزة غرامي العالمية عن مشروع قدمه مع مغني سنغالي تحت اسم "مصر" في 2005. جاءت الجائزة احتفاءً بسيرة خطها التمرد ورفض السائد، ليغادر صاحبها مصر إلى أوروبا، في أواخر الثمانينيات، رغم ما حققه من نجاح كموزع موسيقي، بعد رفضه إملاءات شركات الإنتاج وقتها.
أسس سلامة فرقة "شرقيات" التي حملته إلى أغلب بلدان العالم، ليقدم مع فرقته العديد من الحفلات والمشاريع الموسيقية، كما أطلق عدداً من الألبومات، منها "رقص الجمل"، و"درب الجمل"، و"لا تتسلق الأهرامات"، و"كشري".
لا يميل سلامة، في ما يخص الموسيقى، إلى التصنيف أو الالتزام بإطار محدد، فنجده رغم ارتباط اسمه بموسيقى الجاز، ينتقل إلى غيرها بسلاسة، مثل ما جاء مع ألبومي "كشري" و"لا تتسلق الأهرامات"؛ إذ مزج فيهما الموسيقى الشرقية بالروك الغربية.


لسلامة أيضاً تجربتان مهمتان، الأولى كانت مع جمالات شيحة، المطربة الشعبية المعروفة، التي قدم معها خلطة حملت رؤيته الفنية للون الشعبي، والثانية جاءت مع المنشد محمود التهامي، إذ أعاد سلامة من خلالها توزيع أغان للتهامي بصورة عصرية، كما أعاد الموسيقي المصري تقديم عدد من أعماله عبر الأنغام الصوفية للمنشد المعروف، ليؤكد في المشروعين وما سبقهما أن التجديد عبر مزج موسيقانا بنظيرتها الغربية لا بد أن ينضبط بمعرفة وثيقة بكلتيهما.

باب اللوق

مع انطلاق ثورة يناير، عدل المغني مصطفى رزق مساره الفني، وتحول إلى موسيقى الجاز. لسنوات طويلة، مال إلى استلهام التراث في مشروعه الغنائي السابق، ثم توقف لسنوات، تعرف خلالها أكثر إلى موسيقى الجاز والبلوز. ومع 2011، أطلق تجربته الغنائية الجديدة، التي جاء ألبوم "باب اللوق" أول نتاج لها.

في "باب اللوق"، جمع رزق الترومبيت مع الربابة والساكسفون والناي والعود والبيانو، في محاولة للمزاوجة واستغلال المساحات الواسعة التي يمنحها الجاز للمغني في إبراز إمكانياته وتقديم الجديد دائماً.
رزق ابن مدينة إدفو، التي تقع بين الصعيد بمقاماته الشرقية، والنوبة بسلمها الخماسي. وجد الرجل مزاجه الموسيقي أقرب إلى البلوز والجاز، لتحرّضه تلك الموسيقى على معادلة مغايرة، تتمثل بأن الجديد أولى من القديم بصياغة مختلفة، لتجتذب تلك الصيغة جمهوراً أوسع. لكن رزق، مثل جميع من يبتعدون في سعيهم الفني عن السائد، يواجه وغيره الصعوبات، بسبب ظروف الإنتاج غير المواتية.

المساهمون