الثقوب السوداء... احتمال أن نكون مجرّد وهم

18 يونيو 2021
عند الإعلان عن أول صورة للثقب الأسود عام 2019 (الأناضول)
+ الخط -

في إبريل/نيسان من عام 2019، غطّت صورة واحدة الصفحات الرئيسية في صحف العالم، هي أول صورة لثقب أسود. استهلكت جهود أكثر من 200 باحث وباحثة عملوا لأكثر من عقد، بالاستعانة بثمانية تلسكوبات حول العالم، من أجل إنتاج صورة ثقب أسود يبعد 55 مليون سنة ضوئية عن كوكب الأرض. في الفيلم الوثائقي الجديد، "الثقوب السوداء: حدود معرفتنا" (Black Holes: The Edge of All We Know)، الذي تبثه منصة نتفليكس، نتعرف أكثر إلى الثقب الأسود في الصورة، وعلى منظار أفق الحدث، ومجموعة من العلماء والباحثين، والتكنولوجيا التي طوروها خصيصًا لهذه المهمة.
بالتوازي مع قصة أول صورة لثقب أسود، يتتبع المخرج والمختص بتاريخ العلوم بيتر غاليسون فريقًا آخر من العلماء، يضم كلاً من آندرو ستومينغر، ومالكوم بيري، وساشا هاكو، أثناء مشاركتهم الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ في آخر عمل له قبل رحيله. الأسئلة التي يحاول هوكينغ وزملاؤه الإجابة عنها، تتعلق بمعضلة ضياع المعلومات في الثقب الأسود. العمل هنا رياضي بحت، يصعب على المخرج تصويره بشكل شيق لجمهور غير مختص. فترجح في الوثائقي كفة العلاقة الشخصية التي جمعت العلماء بعضهم ببعض، وبهوكينغ خاصة، الذي يظهر في آخر مشاهد مصورة له، وهو يتفاعل مع زملائه بكلمات قليلة.
ظهرت معضلة ضياع المعلومات في الثقب الأسود، (The Black Hole Information Paradox)، في سبعينيات القرن الماضي، عندما استعمل هوكينغ ميكانيكا الكم ليبيّن أن الثقوب السوداء تشع، وسُمي هذا الإشعاع بإشعاع هوكينغ. المعروف عن الثقوب السوداء أنه لا يمكن لأي شيء الإفلات منها، بما في ذلك أشعة الضوء.

لكن إشعاع هوكينغ يُبين أن هناك جسيمات تخرج من الثقب الأسود على شكل حرارة. هذا الإشعاع الحراري البطيء سيتسبب في تضاؤل الثقب الأسود حتى يتبخر كليًا، ويختفي في النهاية، وتختفي معه كل المعلومات عن الحالة الفيزيائية لكل ما ابتلعه الثقب من قبل.

فقدان المعلومات هذا يتعارض مع نظرية الكم، فبحسبها لا يمكن محو المعلومات عن حالة أي نظام إلى الأبد. فنظريًا، يمكن دائمًا معرفة الحالة الأولية لأي نظام من المعلومات من حالته النهائية.
يُستعان، هنا، بمثال ورد في الوثائقي، على لسان لورا روتش، المختصة بفلسفة العلم؛ إذ تقول إن كتلة مليارات من الفيَلة (تساوي كتلة نجم تحول إلى ثقب أسود) يمكنها أن تشكل ثقبًا أسود، كذلك يمكن لكتلة مماثلة من الكتب أن تتحول إلى ثقب أسود، لكن ما سيتبقى بعد تبخر كلا الثقبين، هو الإشعاع نفسه. بمعنى أن الجسيمات المتبقية في إشعاع ثقب أسود، تَشكّل من كتلة فيلة، هي نفسها الجسيمات التي تبقت من ثقب أسود تَشكّل من كتلة كُتب. ومن دون المعلومات، لا يوجد ما يفرّق بين الكتب والفيلة، وكل ما سقط في الثقب. ما يعني أيضًا أنه يمكن للثقوب السوداء في النهاية أن تمحو الكون، من دون أن يتبقى منه أي أثر يدل على "الماضي". هذا الإشكال هو نتيجة للتناقض بين النظرية النسبية العامة ونظرية الكم، كما لا يوجد في الفيزياء حتى الآن معنى واضحٌ للزمن، فكلتا النظريتان تقدمان مفاهيم متناقضة عنه.
يولي العلماء اهتمامًا خاصة للثقوب السوداء؛ لأنهم يأملون بأن يتوصلوا من خلال دراستها إلى حل أكبر مشاكل الفيزياء الحديثة، وهي التناقض بين نظرية النسبية العامة التي تنبأت بالثقوب السوداء قبل اكتشافها، ونظرية الكم، التي تعدّ أساسيةً في الفيزياء الحديثة، ويعود لها الفضل في العديد من التطبيقات التكنولوجية اليوم.
يعتقد العلماء أن ثمة ما هو ناقص في إحدى النظريتين، أو في كلتيهما. بعد كشفه عن الإشعاع الحراري للثقوب السوداء، ظل هوكينغ يعتقد أن الخلل موجود في نظرية الكم، وليس في النسبية العامة. حتى أنه قال في محاضرة تم توثيقها في كتاب "طبيعة المكان والزمان" (The Nature of Space and Time): "كثيرون ممن يدرسون (نظرية) الجاذبية الكمية، ... يرفضون تلقائيًا فكرة فقدان المعلومات عن الحالة الكمية للنظام، لكنهم لم ينجحوا في إثبات كيف يمكن للمعلومات أن تغادر الثقب الأسود. في النهاية، أعتقد أنهم سيضطرون إلى قبول مقترحي عن أن المعلومات تُفقد، تمامًا كما اضطروا إلى قبول إشعاع الثقوب السوداء، والذي يتعارض مع كل أفكارهم المسبقة".

في النهاية، توصل علماء آخرون إلى أن نظرية النسبية العامة هي التي تحتاج إلى بعض التغييرات، وليس نظرية الكم. في بداية التسعينيات، نجح الأميركي ليونارد سوسكيند، وعلماء آخرون - من علماء نظرية الأوتار - في تقديم مبدأ جديد يحل معضلة حفظ المعلومات الكمية في الثقب الأسود. الدراسات حول هذه المعضلة نظرية ورياضية بشكل أساس. منها ما يخرج بنتائج رياضية صادمة، لا يُفهم بالضرورة معناها الفيزيائي.
يبتعد وثائقي غاليسون عن تفاصيل الإشكالات والخلافات في عالم الفيزياء، ويركّز على علاقات الصداقة القوية والمحبة التي تجمع العالِمين آندرو ومالكوم، وهما يعودان بالذاكرة إلى مكان تبلورت فيه أولى الأفكار التي انطلق منها عملهما على حل معضلة المعلومات مع ستيفن هوكينغ. يقدم لنا الفيلم صورة إيجابية وحالمة، أبطالها علماء من جامعات عريقة، يعملون مع الفيزيائي الشهير، ويناقشون الأفكار، بينما يخرجون في نزهة في الطبيعة.
في بدايته، يشرح الوثائقي معضلة المعلومات، بعرض سلسلة مقاطع من مقابلات مع مجموعة علماء، ويختم هذا المقدمة بكلمات لهوكينغ، يصف فيها المعنى الكارثي والمثير لهذه المعضلة. يقول: "إذا فُقدت المعلومات، لا يمكننا التأكد من ماضينا، كتب التاريخ وذكرياتنا قد تكون مجرد أوهام..".
المقاطع المتتالية في الفيلم قد تُشتت المتابع إن لم يكن متيقظًا في كل دقيقة للمعنى الذي يُضيفه كل عالِم. وسيواجه المتابع للوثائقي، باللغة العربية، تحديًا أكبر بسبب إشكالات الترجمة. لكن، في المقابل، يمكن لهذا الوثائقي أن يُلهم فئة الشباب، والشابات الصغيرات تحديدًا، خصوصًا مع تسليطه الضوء على عالمات صغيرات في السن، كان لهن دور بارز في كلا الفريقين. وهو ما لم نعتد على رؤيته في وثائقيات مشابهة، وفي واقع الفيزياء عمومًا، التي ارتبطت نظرياتها بعلماء رجال، قدم معظمهم منجزاتهم في مراحل عمرية متقدمة. لكن، في الوثائقي، نتعرف إلى العالمة الشابة ساشا هاكو، التي عملت مع هوكينغ وبيري وآندرو، على حل لغز المعلومات.

أهمية العلماء اليافعين ترتبط أيضًا بالحاجة الماسة إلى برامج حاسوبية وخوارزميات من أجل حل المشكلات العلمية الحديثة، ويبدو أن فئة الشباب في كبرى جامعات العالم تتفوق في تطوير الخوارزميات والبرامج الحاسوبية. في الفريق المسؤول عن التقاط أول صورة لثقب أسود، يبرز دور عالمة الحاسوب كاتي باوما. ترأست هذه الأخيرة فريقًا ساهم في تطوير خوارزمية CHIRP، وهي خوارزمية كُتبت خصيصًا لمعالجة البيانات التي جمعها منظار أفق الحدث.

المساهمون