التغير المناخي يربك الإعلام الغربي

26 يوليو 2022
استعاد فرنسيون تفاصيل فيلم "لا تنظر إلى الأعلى" (فرانك شازو/Getty)
+ الخط -

وسط النيران التي كانت تلتهم الغابات من الجهتين، توقف القطار أو خفّف بشكل كبير من سرعته. تلفّتت وجوه الركاب مفزوعةً، بينما بدت النار واضحةً وقريبةً لا ريب فيها. حصل هذا في قطار متوجّه من مدريد إلى مدينة فيرول في إسبانيا، قبل بضعة أيام. التقط المشهد أحد ركّاب القطار ونشره على صفحته الخاصة في تويتر متحدّثاً عن "لحظات من الهلع". مشاهدة الفيديو، بعيداً عن سياقه وبثوانيه العشر الخاطفة، قد يدفع البعض إلى الظنّ بأن ما يراه هو مشهد من فيلم يُحاكي نهاية العالم. ما حصل على متن هذا القطار كان جزءاً من مشاهد كثيرة ممتدّة ومُحزنة لألسنة اللهب التي التهمت عشرات آلاف الهكتارات من الأراضي حول العالم. من أوروبا، وبريطانيا إلى المغرب وغيرها الكثير من الدول. حصل هذا بالتزامن مع ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة، خصوصاً في مدن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا.

أصاب الهلع العالم، على الرغم من أن هذه الظاهرة سبق أن توقعها وحذّر منها الكثير من العلماء والخبراء في المجال البيئي. لكن، وكما بدا واضحاً، فإن التوقع والتحذير يختلفان عن المعايشة. أملٌ أو محاولات تفاؤلٍ ساذجة عادةً ما رافقت الاستماع إلى التحذيرات، بينما أتى الوصول إلى الكارثة ومعايشتها كلحظة إدراك وهلع. اذاً حطّ كوكب الأرض رحاله وبدأ قطفاً واضحاً وفجّاً لما جنته أيدي سكانه. وبينما كان كثيرون يتساءلون عن الإجراءات الطارئة التي يجب اتّخاذها لمواجهة آثار التغيّر المناخي، لم تُظهر بعض الوسائل الإعلامية الغربية جديّةً في المعالجة. لهذا، ترافقت صور الحرائق والخرائط وفيديوهات بعض البرامج التلفزيونية مع استعادة عبر وسائل التواصل الاجتماعية لمشاهد من فيلم "لا تنظر إلى الأعلى" (2021)، للمخرج آدم ماكاي. استعادة ساخرة لمشاهد من فيلم ساخر من الأداء العام تجاه الكوارث التي تُهدّد الأرض.

كيف ننظر إلى الأعلى؟

بينما كانت المدن الفرنسية تتخبّط في موجة حرّ شديدة، نشر الباحث الفرنسي في مجال التاريخ المرئي أندريه غونترت مقالاً تناول فيه تزايد اتّساع الفجوة في المعالجة الإعلامية للحدث ما بين الصحف الفرنسية المكتوبة والقنوات الإخبارية. يرى غونترت أن الأولى تعمل جاهدةً على ربط الحدث بالمُسبّب الأصلي له أي الاحتباس الحراري، بينما تغرق الثانية في معالجات عاجزة عن خلق أي ربط بين الواقع وقضايا التغير المناخي، مُكتفيّةً بإعطاء النصائح لمواجهة حرّ الصيف الشديد هذا. وصف غونترت أداء الإعلام المرئي والمسموع الفرنسي بأنه "تغذية للجهل وحثٌّ على التقاعس عن العمل"، في الوقت الذي تتعرّض فيه البشرية إلى سلسلة من الكوارث الطبيعية المدمّرة. 
هذا النقد للأداء الإعلامي الفرنسي وظّفه الأمين الوطني لحزب الخضر الفرنسي جوليان بايو مباشرةً على هواء قناة "بي إف إم" الفرنسية. عبّر بايو، بوضوح وحدّة، عن غضبه تجاه الأداء الإعلامي الذي لم يرتقِ إلى مستوى الكارثة. استنكر بايو الاستغلال وابتداع جدل سياسي بدلاً من التحذير من أخطار التغير المناخي، وإعلان الحداد العام على أثر هذه الكوارث التي تضرب في كلّ مكان. عندما أعاد بايو نشر هذه المداخلة على حسابه الخاص في تويتر، استعان في بداية التغريدة بهاشتاغ "لا تنظر إلى الأعلى".

هذه الإحالة إلى فيلم آدم ماكاي عمّت مواقع التواصل الاجتماعي سواء للمقارنة أو للتدليل على سوء ولا جديّة الإعلام في تحليل اللحظة الراهنة، وكذلك في تقديم مقاربة علمية قادرة على التوعية والتحذير من الخطر الحقيقي للتغيّر المناخي. الفيلم الذي أطلقته منصة "نتفليكس" في شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2021، شكّل محاكاةً واقعية لسوء الأداء الإعلامي والسياسي أمام الكوارث الطبيعية. لا إخبار ولا معلومة علميّة، بل انشغال دائم بحجم المشاهدات واختلاق الجدل بغاية المنافسة وتحقيق الربح. بينما تتمحور وظيفته الأصل، شبه المنسيّة، في الإخبار وتقديم معلومة، واضحة، دقيقة وجديّة. بدوره الكاتب والناشط البيئي الفرنسي سيريل ديون استحضر الفيلم مباشرةً على الهواء. لم يجد حرجاً في التوجّه إلى الصحافي ومقارنة أسئلته وتعليقاته بمشهد ساخر من فيلم "لا تنظر إلى الأعلى". انتقد ديون التعليقات والأسئلة الصحافية التي تُحاول التخفيف من التحذيرات البيئية (من ضمنها أسئلة الصحافي الذي يُجري المقابلة معه)، بحجّة أن هذا هو العادي "حرّ في الصيف وبرد في الشتاء"، بينما بُحّ صوت الخبراء للتحذير من موجات الحرّ القادمة، ومن الجفاف والهجرة التي ستنجم عن التغير المناخي... وهذا تحديداً ما حصل في أحد مشاهد الفيلم، حيث يلجأ عالِمان اكتشفا حديثاً مذنباً سيصطدم بالأرض وسيؤدي إلى هلاك البشرية خلال ستة أشهر إلى الإعلام. وبدلاً من أن يكون الخبر صادماً وسبباً في إعلان حالة طوارئ، يطلب المذيعون منهما أن يكونا أكثر تفاؤلاً وأقلّ حدّة في تقديم المعلومة.

هذه التعليقات والانتقادات للبرامج التلفزيونية لم تنحصر في نطاق جغرافي واحد. انتشر بشكل كثيف مقطع من مقابلة تلفزيونية على القناة الإخبارية البريطانية "جي بي نيوز"، مع عالم الأرصاد الجوية جان هامون. تعليقات المذيعة على كلام هامون (أيام قبل موجة الحرّ الأخيرة التي ضربت بريطانيا) جاءت مدهشة في تطابقها مع أحداث الفيلم. على الرغم من جديّة الطرح، لم تجد المذيعة بيف ترنر حرجاً من إخراج تعليقها إلى العلن "جان! أريد أن نكون سعداء بسبب هذا الطقس!". جاءت هذه الجملة بعد تحذير هامون من احتمال "موت المئات، بل الآلاف، مع ارتفاع درجات الحرارة في الأسابيع المقبلة".

يُبرّر البعض هذا الأداء الإعلامي بالنيّة في إيصال رسالة هادئة من دون بث الرعب في النفوس. لكن هل أولويّة الإعلام اليوم وفي موقف كهذا، يتركّز على التوعية والتحذير من خطورة اللحظة الراهنة أملاً بحثّ المسؤولين على الحدّ من الخطر، أم التحريف بحجةٍ مثل عدم التهويل؟ في تقرير عام 2022، للهيئة الحكومية المعنية بتغير المناخ، ترد كلمة "طارئ" أكثر من مرّة. وهذا يعود إلى أن فرصة الحدّ من تغير المناخ وآثاره "لن تبقى متوفّرة إلى أجل غير مسمى"، كما حذّر غونيري لو كوزاني (باحث ومشارك في كتابة التقرير)، لموقع بروت ميديا الفرنسي. 

المساهمون