منذ الثورة التونسية عام 2010، ثمّ سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، اعتبر التدوين واحداً من التجليات الأساسية لحرية التعبير في البلاد. حتى إن مراقبين كثرا اعتبروا التدوين، سواء على المدوّنات الخاصة أو على مواقع التواصل، واحداً من الأسباب الأساسية للتغيير الديمقراطي الذي عرفته البلاد.
مناسبة الحديث هذا، هي الردّة الكبيرة على الحريات التي تعرفها تونس منذ القرارات الانقلابية للرئيس قيس سعيّد (25 يوليو/تموز 2021)، إذ عادت إلى الواجهة قضية التدوين بعدما استدعي عدد كبير من الناشطين على مواقع التواصل بسبب التعبير عن رأيهم على هذه المنصات. وآخر القضايا، قضية الشاب التونسي علي السعيدي الذي يقبع حالياً في السجن في محافظة قبلي (أقصى الجنوب الغربي التونسي)، وذلك بعدما كتب في سبتمبر/أيلول 2021 تدوينة سخر فيها من وعود الرئيس قيس سعيد المتكررة بتحسين الأوضاع في البلاد. واعتبر الأمن ومعه القضاء أنّ تدوينة السعيدي تعتبر مسّاً بالرئيس وموقع الرئاسة، فأوقف الشاب وما زال مسجوناً حتى اليوم.
قضية علي السعيدي ليست القضية الوحيدة التي شهدت سجن مواطنين بسبب رأيهم على مواقع التواصل، بل سبقتها حالات عدة، لعلّ أشهرها قضية المدون سليم الجبالي صاحب صفحة "وزير ضغط الدم والسكر" الساخرة على "فيسبوك"؛ إذ قضت إحدى المحاكم التونسية يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بسجنه لمدة ستة أشهر، بسبب ما اعتبر "تطاولاً على الرئيس التونسي قيس سعيد ومسّاً بالجيش التونسي"، إثر نشره مجموعة تدوينات يرفض فيها قرارات 25 يوليو/تموز الانقلابية، وكلّ ما حصل بعدها.
وعند إلقاء نظرة سريعة على تسارع الأحداث حتى منذ ما قبل قرارات يوليو/تموز الماضي، يتبيّن ببساطة أنّ الخناق اشتدّ في العام الأخير تدريجياً على الفضاء الافتراضي، فباتت الاستدعاءات والتوقيفات تتمّ بالجملة: في إبريل/نيسان عام 2020، ألقت الشرطة التونسية القبض على المدوِّنين أنيس المبروكي وهاجر عوادي، بعد نشرهما تدوينات انتقدا فيها طريقة توزيع السلطات التونسية للمساعدات العينية والنقدية المخصصة للعائلات الفقيرة، بعد تفشي فيروس كورونا وتأثيره على مستوى دخل هذه العائلات. ثمّ في سبتمبر/أيلول، ألقي القبض على شاب بسبب ما قيل إنها "تدوينات هدّد فيها الرئيس التونسي"، وقد بقي اسم الشاب طيّ الكتمان نزولاً عند رغبة عائلته بعدم التداول باسمه.
وبعد أيام من انقلاب سعيد، ألقى الأمن القبض على النائب في البرلمان التونسي المجمدة أعماله والمدوّن ياسين العياري، بسبب نشره تدوينات رفض فيها القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد. لكن الرئاسة التونسية تبرأت سريعاً من تهمة تكميم الأفواه وقتها، وادّعت أن الملف قضائي وليس سياسيا، ليعود ويخرج العياري من السجن، ثم تقفل القضية.
في الإطار نفسه، مثل عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل، سامي الطاهري، قبل أيام، أمام القضاء، بسبب تدوينة نشرها، اعتبرها عماد الدايمي الوزير المدير السابق لديوان رئيس الجمهورية محمد المنصف المرزوقي، مسيئة له.
أمام هذا الواقع، أصدرت منظمات حقوقية عدة، بيانات وتحذيرات من التدهور السريع لحرية التعبير في تونس. وأبرزها كانت منظمة "المدونون الأحرار" التونسية التي رأت أن أي عقوبة على حرية التعبير في حال هددت حياة فرد أو أساءت له لا يجب أن تكون سالبة للحرية، بل يجب على كل القوانين المحلية احترام حق الإنسان في التعبير بالدرجة الأولى.
لكنّ هذا الواقع ليس جديداً على تونس، وإن كان الوضع أكثر تشاؤماً في الفترة الأخيرة. فرغم أنّ الدستور التونسي الذي تمّ العمل به منذ بداية سنة 2014 ينصّ في فصله 31 على أنّ "حرية الرأي والفكر والإعلام والنشر مضمونة. ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات"، فإنّ تونس سجلت في السنوات الأخيرة، وفقاً للتقارير السنوية التي تنشرها المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، العشرات من حالات الإيقاف والسجن لأفراد بسبب تدويناتهم التي نشروها على صفحاتهم على منصات التواصل، وهو ما اعتبرته هذه المنظمات خرقاً جسيماً للدستور التونسي والمدونة العالمية لحقوق الإنسان.
وأمام غياب أي قانون ينظّم النشر الإلكتروني، يبدو أنّ التعامل مع المحتوى المنشور على هذه المنصات سيظلّ رهينة لمزاجية الحاكم والأجهزة الأمنية، من دون أي رادع يمنح التونسيين حماية، دفعوا ثمن الحفاظ عليها غالياً منذ 10 سنوات حتى اليوم.