تُوّج ملك بريطانيا، جورج السادس، في مايو/أيار من عام 1937. كان الاحتفال حينها فرصة حقيقية للابتهاج بعد الاضطرابات التي شهدتها الحرب العالمية الأولى. حفل تتويج الملك يُعَدّ حدثاً استثنائياً بالطبع، فقد لا يراه بعضهم في حياتهم مرتين، لهذا امتلأت شوارع لندن في ذلك اليوم بالناس من الأعمار كافة لرؤية موكب الملك. بدورها، حرصت الصحف الأوروبية على إرسال صحافييها ومصوريها لتغطيته. بين هذه الصحف، كانت تلك الفرنسية Ce Soir، ذات التوجه الشيوعي، التي أرسلت لهذا الغرض أحد مصوريها، وكان شاباً طموحاً يشق طريقه في عالم التصوير الصحافي.
لم يكن هذا المصور الشاب سوى هنري كارتييه-بريسون (1908 - 2004) أحد العلامات التاريخية البارزة في مجال الفوتوغرافيا. حضر هنري كارتييه-بريسون حفل التتويج، وتابع الموكب الملكي وهو يمر في شوارع لندن، وعاد إلى صحيفته في اليوم التالي بمجموعة كبيرة من الصور. حين طالع مسؤولو الصحيفة الصور التي التقطها الفنان الشاب، لم يجدوا بينها صورة واحدة يظهر فيها الملك أو أي أثر مباشر للموكب. بدلاً من تصوير الموكب وحفل التتويج، قرر توثيق هذه اللحظة في عيون المتابعين والحشود التي اصطفت بالآلاف عبر الطرق الرئيسية لمتابعة الحدث.
ربما ألجمت المفاجأة مسؤولي الصحيفة وقتها، فلم يكن من المعتاد في فن التصوير الصحافي في ذلك الوقت، أن تبتعد عين المصور عن الحدث الرئيسي، وتستغرق بدلاً من ذلك في تسجيل ما يحيط به من مظاهر تُعتبر ثانوية. غير أن هذه الصور التي التقطها هنري كارتييه-بريسون، رسخت لاحقاً لأمر بالغ الأهمية في مجال الفوتوغرافيا، وهو تقدير المشاهد الهامشية، والفضول الدائم لاكتشاف ما وراء الحدث.
يكشف معرض "التتويج الآخر" الذي تستضيفه مؤسسة هنري كارتييه-بريسون في باريس، حتى الثالث من سبتمبر/أيلول المقبل، عن مجموعة صور مميزة التقطها خلال تتويج الملك جورج السادس. في هذه الصور لم يلتفت إلى أبهة وعظمة الحدث الرئيسي، بل استغرق في تسجيل المشهد الساحر للناس العاديين الذين تجمعوا لمشاهدة هذه المناسبة التاريخية. في خضم الاحتفال المبهج، وجد المصور الإلهام في مشهد الجماهير، ففي وسط هذا الحشد من المتفرجين، اكتشف الجوهر الحقيقي لهذه المناسبة، وشرع في تخليد المشاعر المرسومة على وجوه الناس، من الرهبة والإثارة والفضول والترقب.
وبينما سعى معاصروه من المصورين لتوثيق الحفل الرسمي، تجنب هو هذا السرد التقليدي، موجهاً اهتمامه إلى أساليب الأفراد في الاحتفال، وابتكاراتهم الشخصية في الحصول على أفضل زاوية لمراقبته. ترصد هذه الصور بمهارة الدراما الإنسانية التي صاحبت هذه الاحتفالات، والتي تجسدها الوجوه والأعناق الممدودة المتطلعة لرؤية أفضل.
رصدت صور هنري كارتييه-بريسون السلوكيات الطبيعية وغير المصطنعة أو الخاضعة للبروتوكول. كل وجه من هذه الوجوه التي تتضمنها الصور، يعكس قصة مختلفة وتطلعات وآمالاً وأحلاماً شخصية بسيطة، من الطفل الجالس على كتف والديه، والزوجين المسنين مشتبكي اليدين، إلى هذا الرجل الذي افترش الأرض حتى غلبه النعاس من طول الانتظار. هؤلاء المجهولون والمستبعدون من السرد التاريخي، احتلوا مكانهم الطبيعي في صور كارتييه-بريسون كفاعلين ومؤثرين في المشهد. لقد أدرك أن المغزى الحقيقي للحدث لا يمكن فهمه إلا من خلال عيون الناس الذين شهدوا عليه.
المثير أيضاً في هذه المشاهد هي الأدوات المبتكرة والبسيطة التي اخترعها المتفرجون، لتحسين رؤيتهم للمشهد، من المرايا الصغيرة إلى المناظير المصنوعة يدوياً، إلى جانب المشاهد السوريالية للأفراد الذين يقف بعضهم على أكتاف بعض، أو يحتلون أماكن مرتفعة وغير معتادة لتجاوز الحواجز التي تفصلهم عن المشهد الذي يتكشف أمام أعينهم.
تعكس رؤية كارتييه-بريسون وأسلوبه، إيمانه بقوة الأشخاص العاديين وقدرتهم على تشكيل التاريخ، فعدسته ترفع عوام الناس إلى المقدمة وتبرز حضورهم الجماعي وتؤكد دورهم كمشاركين نشطين في مناسبة بالغة الأهمية. لا يقدم معرض "التتويج الآخر" لمحة فوتوغرافية عن لحظة تاريخية محددة فحسب، بل يدعونا إلى التفكير في أهمية العنصر البشري في السرديات التاريخية المهمة.
لقد ألهمت صور هنري كارتييه-بريسون أجيالاً من الفوتوغرافيين حول العالم، وهذا المعرض ليس تكريماً لموهبته فحسب، بل يمثل شهادة على القوة الدائمة للتصوير الفوتوغرافي كوسيلة لرواية القصص والتذكر والتقاط روح اللحظة. كل صورة من هذه الصور تمثل بوابة إلى الماضي، وتذكيراً بالمشاعر التي تربطنا جميعاً كبشر، وتقديراً كذلك للأشخاص العاديين الذين يشكلون مسار الأحداث بروحهم وإرادتهم الجماعية.
يُشار إلى أنه عام 1947، اشترك هنري كارتييه-بريسون مع ديفيد سيمور وروبرت كابا وجورج رودجر ووليم فانديفيرت في تأسيس "ماغنم فوتوز" (Magnum Photos) في باريس، لتكون أول وكالة تعاونية في العالم ضمت أكثر من مصور حر.
حصل بريسون عـلى شهادة بكالوريوس عام 1926، ثم تابع دروس الرسام لوت في مرسمه، والتقى جماعة الفنانين السورياليين. وقضى عام 1930 في ساحل العاج في أفريقيا، ثمّ ترك الرّسم في العام التالي، وقرر أن يتوجه نحو التصوير الفوتوغرافي. وغادر عام 1932 متجولاً في قارة أوروبا، ونشر صوره في المجلات. وعام 1933، أقام أوّل معرض له في مدينة نيويورك، واشتغل في التصوير السينمائي، وخصوصاً في ثلاثة من أفلام المخرج جان رينوار.