الانقلاب يكبّل الصحافة السودانية: قمع يزداد شراسة

18 نوفمبر 2021
سيطرت سلطات الانقلاب على وسائل إعلام حكومية (فرانس برس)
+ الخط -

بعد مرور أكثر من 3 أسابيع على انقلاب الجيش السوداني، دخلت الصحافة ووسائل الإعلام في نفق مظلم بجملة من الانتهاكات والمضايقات الأمنية.

عبد المنعم محمد مادبو، صحافي يعمل مراسلاً لموقع "دارفور 24" من مدينة نيالا، مركز ولاية جنوب دارفور. يوم السبت الماضي، حين كان مقرراً خروج مواطني المدينة بموكب رافض للانقلاب العسكري، حضر إلى المكان المحدد ومعه أدوات التصوير، ومع بداية الموكب، شرع بمهمته الصحافية، لكن ومن دون مقدمات هجمت عليه قوة من الشرطة، بدأت بضربه، ومن ثم رمته في عربة، واقتادته إلى قسم الشرطة برفقة عشرات من المحتجين. 

يروي مادبو لـ"العربي الجديد" ما حدث معه، مشيراً إلى أنّه تم التعامل معه منذ أول لحظة بعنف شديد، وأنه قابل في القسم مدير الشرطة الذي سأله عن أسباب تواجده، فأخبره بأنه صحافي وحضر لتغطية الحدث، ليخبره المدير بأنه "لا تغطية بعد الآن، إلا بإذن منهم في ظل حالة الطوارئ المعلنة في البلاد"، مبيناً أنّه تم التحقيق معه، فيما أخبره العناصر بأنه سيسجن مع الموقوفين الآخرين لمدة 3 أشهر بموجب قانون الطوارئ، لكن في اللحظات الأخيرة، وبعد 3 ساعات من إيقافه، أطلق سراحه. يصف مادبو ما حدث له بأنه "انتكاسة كبيرة لحرية الصحافة والحريات العامة التي تمتع بها السودانيون بعد نجاح ثورتهم قبل أكثر من سنتين، وتذهب بعد الانقلاب في مهب الريح". 

ويشير إلى أنه يعيش حالةً من الإحباط والقلق على مستقبل الحريات الصحافية في البلاد، وحتى كمواطن، إذ يقول إنه لا بقاء دون حرية التي تعني له الكرامة قبل كل شيء، ويؤكد أنه سيواصل مهمته الصحافية مهما كانت النتائج وسيخرج لتغطية المواكب المعلنة لذات الغرض.

اعتقال صحافيين واستدعاء آخرين للتحقيق معهم بسبب عملهم في السودان

ما تعرض له مادبو بمدينة نيالا، لم يكن حصرياً، فمدير مكتب قناة "الجزيرة" الإخبارية في السودان، المسلمي الكباشي، داهمت منزله بمدينة الخرطوم بحري، يوم الأحد الماضي، قوة ترتدي زياً مدنياً ونقلته إلى الاحتجاز بمقر نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة، ودونت في حقه عدداً من البلاغات. أطلق سراح الكباشي يوم الثلاثاء الماضي من دون إعلان الأسباب التي أدت إلى توقيفه، فيما يؤكد مصدر بمكتب "الجزيرة"، لم يكشف عن اسمه كونه غير مخول له بالتصريح، لـ"العربي الجديد"، أن سلطات الانقلاب اعترضت منذ فترة على تغطية قناتي "الجزيرة" و"الجزيرة مباشر" للاحتجاجات الشعبية التي أعقبت الانقلاب في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأن البلاغات ضد مدير المكتب تسير في هذا السياق غير الحقيقي والواقعي. وتخوّف المصدر من أن يتم إغلاق المكتب في أي لحظة، تكراراً لما حدث في بلدان الربيع العربي، سابقاً.

في ولاية القضارف، شرق السودان، وطبقاً لبيان شبكة الصحافيين، خضع المراسل بمكتب قناة "الجزيرة" بالخرطوم، الصحافي أسامة سيد أحمد، مطلع الأسبوع الحالي، للتحقيق من قبل عناصر جهاز الأمن بولاية القضارف ومُنع من الوصول إلى موقع الحدث وتغطية "موكب 13 نوفمبر" وتم إجباره على مغادرة الولاية. وطبقاً لمعلومات أخرى لـ"العربي الجديد"، فإن سلطات الانقلاب شرعت في إصدار توجيهات لبعض مراسلي الصحف والقنوات الخارجية والاحتجاج على تغطيتهم وطريقة عكسهم لما يدور في الشوارع السودانية من رفض للانقلاب.  

والثلاثاء الماضي، قال الصحافي شوقي عبد العظيم إنه تعرض لاعتقال تحت الترهيب دام ساعات من قبل الاستخبارات العسكرية. وأكد الصحافي السوداني، في تدوينة في "فيسبوك"، أنه تم عصب عينيه واقتياده إلى مكان مجهول، وطُلب منه التوقيع على إقرار وتعهد بـ"التوقف عن بث خطاب الكراهية ضد الجيش". وصباح الثلاثاء الماضي أيضاً، تعرّض رئيس تحرير صحيفة "السوداني"، عطاف محمد مختار، لمطاردة من قبل ملثمين حاولوا فتح باب سيارته، مرجحاً أن تكون المحاولة جزءا من محاولات إسكات الصحافيين وتخويفهم.

حالة من الإحباط والقلق على مستقبل الحريات الصحافية في السودان


وتقول "شبكة الصحافيين السودانيين"، في بيان لها، إن الصحافيين تعرضوا للتضييق والمعاملة السيئة أثناء قيامهم بأداء واجبهم ومنعوا من تغطية الاحتجاجات والمواكب السلمية التي اجتاحت كل مدن وولايات السودان ضد الانقلاب، رغم أهمية تلك التغطية التي أصبحت حدثاً يتصدر عناوين الأخبار الرئيسية في جميع وكالات الأنباء والصحف العالمية والقنوات الفضائية. وأشارت الشبكة، وهي من الكيانات الصحافية المدافعة عن حرية الصحافة والحق في التعبير، إن السلطة الانقلابية وجهاز أمنها "سيئ السمعة"، يعمدان إلى إخفاء الحقائق بتكميم الأفواه ومنع الصحافيين من الوصول إلى موقع الحدث، ونقل المعلومة الحقيقية للمتلقي.

وكان الصحافي بقناة "سودانية 24" حذيفة عادل الجاك، قد تعرض خلال موكب 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري للاعتداء. وقال في منشور له بصفحته على "فيسبوك": "تم الاعتداء عليّ جسدياً ولفظياً بألفاظ يعف اللسان على ذكرها من قبل أفراد يرتدون زي شرطة، وعند التعريف بأنني صحافي كانت الإجابة ببساطة: "يعني شنو صحافي؟" يبدو أننا مقبلون على عهد الصحافي فيه لا شيء... بل الإنسان فيه لا شيء". 

يقول حذيفة عادل الجاك لـ"العربي الجديد"، إنه "لا يستطيع وصف ما حدث له ولن يستطيع أحد آخر تصوره إلا إن مرّ بنفس التجربة". ويضيف: "كل ما في الأمر أنك أمام قوة تضربك وتهينك وتتهمك بانتهاك القانون، وليس بمقدورك أن تخبرهم أنهم هم من ينتهكون القانون في تلك اللحظة"، منبهاً إلى أن "ما يتعرض له الصحافيون الآن هو أسوأ مما كان عليه أيام نظام البشير بكل ما فيه من مساوئ"، موضحاً أنه لم يحرك أي إجراءات قانونية لأن تجربة مماثلة تعرض لها قبل فترة لم يكن الذهاب فيها للعدالة مجدياً. 

وحول كيفية مواجهة الصحافيين لذلك الواقع، يقول إنه "لا مجال أمامهم سوى الإضراب عن العمل كلياً لأنهم أمام خيارين، إما عكس الحقيقة وإرضاء الضمير، ومواجهة التعسف، أو التطبيل للانقلاب، وهذا مستحيل عند غالب الصحافيين الشرفاء".

"شبكة الصحافيين السودانيين": السلطة الانقلابية وجهاز أمنها "سيئ السمعة" يعمدان إلى إخفاء الحقائق بتكميم الأفواه ومنع الصحافيين في السودان من الوصول إلى موقع الحدث ونقل المعلومة الحقيقية للمتلقي

في وجه آخر للمضايقات، استدعت سلطات مجلس الصحافة والمطبوعات الحكومية، مراسل صحيفة "الشرق الأوسط" أحمد يونس، في 11 نوفمبر الجاري، عطفاً على تقرير له عن عودة شخصيات محسوبة على نظام الرئيس المعزول عمر البشير للواجهة السياسية بعد الانقلاب. لكن يونس رفض الذهاب لمقابلة المسؤولين في المجلس لعدم اختصاص المجلس في استدعائه، ووجد موقفه دعماً من عشرات الصحافيين الذين وقعوا على مذكرة ترفض الاستدعاءات الإدارية الموروثة من النظام القديم واعتبروها ردة عن قيم الثورة السودانية.  

الصحافي بصحيفة "التيار"، حمد سليمان الخضر، حصل على نصيبه من الانتهاكات، بإصابته برصاصة مطاطية أثناء تغطيته لمواكب بمدينة أم درمان، غرب الخرطوم، نُقل إثرها إلى المستشفى لتلقي العلاج. يوضح سليمان لـ"العربي الجديد" أنه أصيب برصاص حي بعمق 7 سنتيمترات من قبل الشرطة، وقبل أن يستفيق من الضربة الأولى، أصيب برصاصة مطاطية فوق الفخذ وحدث له نزيف كبير جداً تدخل الأطباء بسرعة شديدة لإسعافه، رغم كثرة الإصابات التي وردت إلى المستشفى.

ويصف سليمان رد فعل الأجهزة الأمنية بـ"الوحشي والدموي من نظام يريد أن يحكم بالقبضة الحديدية ويريد منع الصحافة الحرة من القيام بواجباتها التي تكفلها لها القوانين المحلية والدولية"، مبيناً أنه في ذات الشارع الذي أصيب فيه تعرض باقي الصحافيين لمضايقات كبيرة حيث منعت القنوات التلفزيونية من نقل ما يدور، "لأن الانقلابيين يخططون لإرغام وسائل الإعلام المستقلة لأن تكون مثل وسائل الإعلام الحكومية التي سيطروا عليها كالتلفزيون والإذاعة ووكالة السودان للأنباء، وهي وسائل تتحدث عن "مخربين في الشوارع" وليس ثواراً".

يشار إلى أن سلطات الانقلاب اعتقلت منذ اليوم الأول، الصحافي بالتلفزيون الحكومي، ماهر أبو الجوخ، وأردفته باعتقال الصحافي فائز السليك، ولم تطلق سراحهما حتى اللحظة.

المعضلة الكبرى تتعلق بقطع خدمة الإنترنت والتي تسبب استمرار احتجاب الصحف عن الصدور، كما تستمر سلطات الانقلاب في مصادرة صحيفة "الديمقراطية" بالكامل

عدا عن الانتهاكات والمضايقات، تواجه الصحافة السودانية مشاكل لوجستية، منها إغلاق الطرقات والجسور في بعض الأيام، بينما المعضلة الكبرى تتعلق بقطع خدمة الإنترنت والتي تسبب استمرار احتجاب الصحف عن الصدور، كما تستمر سلطات الانقلاب في مصادرة صحيفة "الديمقراطية" بالكامل، بواسطة قوة عسكرية تمنع دخول العاملين في الصحيفة، إلى مكاتبها.

في السياق، يؤكد الصحافي علاء الدين بابكر، لـ"العربي الجديد" أنّ "المناخ الحالي للحريات الصحافية هو الأسوأ في تاريخ الصحافة، والانقلاب ما عاد يسمح بأيّ ممارسة صحافية مهنية، بما في ذلك الاستماع للرأي والرأي الآخر، وما يتهدد الصحافيين بات يتوسع يوماً بعد يوم، بما في ذلك حياتهم وسلامتهم".

ويشير بابكر، إلى أنّ "إرهاصات التضييق بدأت قبل الانقلاب بالاعتداء على الصحافيين أثناء تغطيتهم لما سمي باعتصام القصر، وهو الغطاء السياسي للانقلاب". ويلفت إلى أنّ "مستقبل الصحافة والكلمة الحرة في خطر حقيقي، لكنّنا متفائلون بعودة الحكم المدني بكلمة الشارع السوداني، وقتها ستكون الصحافة السودانية نموذجاً للمنطقة العربية والأفريقية، وإلا ستتحول الصحافة بوقاً للانقلاب".

ودانت "شبكة الصحافيين السودانيين" في بيانها كلّ تلك الانتهاكات الشنيعة بحق الصحافيين، وأعلنت تضامنها الكامل معهم ورفضت أيّ محاولات لقمعهم ومصادرة حقهم في الحصول على المعلومة والوصول إلى موقع الحدث، ومنعهم من أداء واجبهم. وحملت الشبكة السلطة الانقلابية مسؤولية أمن وسلامة الصحافيين كاملة أثناء تغطية الاحتجاجات. ودعت الصحافيين والقانونيين وشباب الثورة ومنظمات حقوق الإنسان المهتمة بقضايا الحريات الصحافية، خاصة "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" و"مراسلون بلا حدود"، للتصدي لكلّ أشكال الانتهاكات الشنيعة التي تمارسها السلطة الانقلابية، ومحاولاتها لتخويف الصحافيين وإرهابهم وإسكات أصواتهم بتكميم أفواههم، والضغط على السلطة الانقلابية لاحترام الصحافيين وعدم التعرض لهم أثناء تأدية واجبهم.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

والثلاثاء الماضي، نظم عشرات الصحافيين السودانيين تظاهرة ووقفة احتجاجية وسط الخرطوم تنديداً بالانقلاب العسكري وما تلاه من إجراءات ضد حرية الصحافة والحق في التعبير. وحمل الصحافيون الذين تجمعوا قرب "المركز الثقافي البريطاني" لافتات، جاء في بعضها "لا لاستهداف الصحافيين"، و"لا لقطع الإنترنت"، و"لا لمصادرة الحق في التعبير"، و"الصحافة باقية والطغاة زائلون"، و"لا لاعتقال الصحافيين"، و"الصحافة ليست جريمة".

وسبق الوقفة الاحتجاجية تسليم الصحافيين مذكرة لمكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في السودان، طالبوا فيها بإطلاق سراح المعتقلين، وعودة العمل بالوثيقة الدستورية، وإبطال قرارات الانقلاب، وعودة خدمة الإنترنت كحق من حقوق الإنسان، ومنع التغول على المؤسسات الصحافية. وعدّد ممثل المؤسسات الصحافية التي نظمت التحرك ماجد محمد علي، في كلمة له، الانتهاكات التي تعرض لها الصحافيون منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الماضي، بما في ذلك عودة الرقابة القبلية على وسائل الإعلام، والسيطرة كلياً على "وكالة السودان للأنباء"، واعتقال الصحافيين وانتهاك حقوقهم في ممارسة مهنتهم.

من جهته، ينفي الأمين العام لمجلس الصحافة والمطبوعات، والمعين حديثاً من قبل سلطة الانقلاب العسكري، عبد العظيم عوض، وجود "أي تضييق أو استهداف ممنهج ضد الصحافيين" كما ينفي استدعاء مراسل "الشرق الأوسط" لأسباب تتعلق بعمله الصحافي "إنما لأسباب إدارية تخص توفيق أوضاع المكتب".

ويضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "كل ما يثار من اتهامات حالياً مردها حالة الاحتقان والاستقطاب الحاد الراهنة والتجييش ضد العسكر" مؤكداً إدانته أي عملية توقيف أو اعتقال لأي صحافي بما في ذلك تلك التي حدثت لمدير مكتب "الجزيرة" المسلمي الكباشي، مبيناً أنه يتقصى أسبابها حالياً، لينظر بعدها ما يمكن أن يفعله. ويستبعد عوض ترصد الأجهزة الأمنية للصحافيين أثناء المواكب أو إطلاق الرصاص عليهم، خصوصاً أنّ الشرطة ذكرت في بيان لها أنها لم تستخدم الرصاص، بما يرجح، حسب زعمه "وجود جهات أخرى، ربما تكون متورطة في ذلك لمزيد من التجييش".

المساهمون