خلال حديث لعازف البيانو والمدرس الأكاديمي البريطاني إيان بيس، ضيفاً على بودكاست يُعدّه المؤلف والباحث الموسيقي الكندي سامويل آندرييف، تطرق بيس إلى الأدوار التي يؤديها نُقّاد هذه الأيام في الإضاءة على الإنتاجات الموسيقية المعاصرة.
تكلم الرجل عن المحاباة النقدية التي يُمارسها البعض؛ إذ غالباً ما يسعون إلى الإعلاء من قيمة الأعمال الموسيقية الحديثة وتقريبها من قلوب الناس وعقول المتابعين، من دون بذل الجهد الحثيث في ممارسة النقد النافذ وإبداء الرأي الموضوعي حيالها.
لتلك الظاهرة، تتبّع المُتحدث جذوراً تصلها بالكتابة البحثية الإثنو- موسيقية، وهو ميدان دراسة موسيقى الشعوب. في تناوله لما يُقدّمه فنانو البلدان النامية، أو الذين هاجروا شمالاً وغرباً، ويتحدرون أصلاً من شعوب المستعمرات السابقة، عادةً ما يأخذ الباحث في هذا المضمار بعين الاعتبار "الخلل في توازن القوة" الذي يدفعه إلى النظر بعين العطف تجاه ما يُنتج من فنون ومحاباة مُنتجيها، نظراً إلى الظروف التي تعلموا ومارسوا في ظلها، من قلة الموارد وضعف الوسائل والافتقاد إلى السيرورة المعرفية لدى المجتمعات التي أتوا منها، كل ذلك بالقياس إلى الدول المُتقدمة وأقاليم مركز العالم الحضاري (الغربي).
مع أن إيان بيس، والحق يُقال، قد أبدى تحفّظه إزاء نهج نقدي كهذا، كما أنه لا يسعى بالمبدأ إلى التقييم على أساس الجدارة، إلا أنه أيضاً أبدى تفهّمه. وهنا تكمن المشكلة؛ إذ بات من مقتضيات الصواب السياسي اليوم، ومن أصول اللياقة الثقافية، ألا يتصدى المثقفون إلى المراجعات المحابية للأعمال الفنية والأدبية القادمة من البلدان النامية. أما الغرض المعلن من ذلك، فهو تمكينها.
بذلك، يُصبح "الإنصاف مقابل الجودة" شعاراً ترفعه أوساط اليسار التقدمي المُتنفذة داخل المؤسسات الراعية، من أكاديمية وثقافية، خصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، لا وبل تعتمده معياراً في الاختيار وصنع القرار، عند دفعها وتبنيها لإنتاجات فنية إلى الواجهة، ليست جديرة بالضرورة.
لكن، ما الضرر الذي قد يلحق الفن القادم من البلدان النامية أو الأقليات مُتدنية - التمثيل جراء محاباتها بغرض تمكينها؟ الإجابة بوضوح هي أضرار عدّة. أولها، تنميط الإنتاجات الفنية لتلك الفئات لدى الذائقة الجمعية. عند جعل "الإنصاف فوق الجودة" بوابةً تمرّ عبرها الأعمال الرديئة والسطحية أو المُنفّذة بصورة رديئة، إنما يُساهم ذلك بتوكيد سمة العجز لدى القطاعات المُهمشة والمجتمعات المُستعمرة عن التجاوز من خلال الفن، وتحقيق أي خرق إبداعي يرقى إلى العالمية من على سلم الندية، لا الاعتماد على النسب التمثيلية (الكوتا).
بالمقابل، هنالك فنانون أتوا من نصف الكرة الجنوبي، أجادوا على كل من صعيديّ الإنتاج والتنفيذ. خذ الموسيقى على سبيل المثال. قد تميّز عازف العود العراقي الراحل منير بشير بمهارة فائقة إزاء تملّكه لآلته الموسيقية، وبنظرة فكرية نافذة إزاء كيفية الاستخراج منها لصوتٍ شديد الكثافة اللونية، ومدّ الأداء الآلي عليها بأسباب القوة التعبيرية، ما جعل منه مُلهماً لتطوير صناعتها بدلاً من الاكتفاء بعرضها تُحفةً شرقية. بهذا، بشير الذي جال في كل أنحاء المعمورة، لم يتكّئ في توجّهه نحو المُستمع الغربي على سجادة استشراقية تستر تحتها نصف - الجودة، إنما سعى بدوافع إبداعية ذاتية، إلى أن يكون جديراً بالاحترام، وليس محظيّاً بالإنصاف.
القدر ذاته من المهارة إزاء تملك الآلة التي لبشير، تلمسها الأذن عند المؤلف السوري كريم رستم، إزاء تملكه ذخائر المعالجة الموسيقية والتوزيع الآلي، التي تحويها مخازن الفرق الأوركسترالية الحديثة. في مؤلّفه "رمل" (Ramal)، الذي كُلّف بإنجازه من قبل أوركسترا الديوان الشرقي الغربي، بإدارة دانييل بارنبويم، يمزج رستم الممكنات اللونية على امتداد الطيف النغمي، وذلك بغية رسم مشهدية عاصفة حيناً، وساكنة حيناً. نُسجٌ صوتية تستعيد مرّات مؤلفين عالميين كبار، ومرّات تبحث لها من بين الأساليب والمفردات عن هوية موسيقية شخصية.
إلا أن "الجودة" في الفن، نظراً إلى طبيعته اللامعيارية، لا تُقيَّم أصلاً بامتلاك الوسائل وحدها. وإلا، فالأفلام المُدرّة للعوائد التي تُنتجها هوليوود في الولايات المتحدة الأميركية، بإمكانياتها المالية والبشرية والتكنولوجية الهائلة، لها أن تكون أسمى الفنون. صفاء الجوهر وعمق الرسالة، كلاهما علاماتٌ للفن الجيد، والسينما الإيرانية أبلغ مثال.
استطاع المُخرجون الإيرانيون، على مر العقود الأربعة الماضية، تغيير وجه السينما العالمية، بأقل الإمكانات وأبسط الوسائل. لا بل جعلوا من القلّة والبساطة ذاتها أسلوبية، تُخفف من الحمولة الإنتاجية، لتُمكّن المضامين الإنسانية التي يحملها الفيلم، من ولوج وجدان المشاهد؛ فتخلق حالاً أشبه بالطرب السينمائي.
أما الضرر الأخطر لشعار "الإنصاف مقابل الجودة"، فهو ذاك الذي يطاول المُشتغلين بالفن، من أبناء المستعمرات السابقة والفئات المهمشة، وذلك عندما يتماهى هؤلاء مع التنميط الذي يُمارس عليهم، فينصرفون عن الطموح إلى التجاوز، عبر ممارستهم الفنية، يكتفون بحدود نصف - الجودة، ما دامت هي العلامة الفنية التي تراها المؤسسة الثقافية الغربية على أنها الأصدق تمثيلاً لهم، بمُقتضى السيرورة الكولونيالية. أو أن يقوم أنصاف - الجيدين، من بين متدنّي التمثيل، باستغلال الشعار المرفوع، بغية الوصول إلى منابع الدعم المالي والإعلامي، بذريعة أنهم الممثلون الحصريون عن العالم الثالث، يُقدمونه كما هو.
بذلك، يقومون هم أيضاً بتقديم العالم الثالث كما يود أصحاب المركزية الحضارية أن يكون. إن الإنصاف من خلال منح نسبٍ تمثيلية لفنون الشعوب الأقل نصيباً لجهة الموارد والتنمية، من دون إخضاعها للمعايير النقدية ذاتها التي تُطبّق على نصف وغرب الكرة الشمالي، الذي ينعم بالاستقرار السياسي والاجتماعي، علاوة على تراكم المعرفة النظرية والتطور التكنولوجي، إنما ينمّ عن نرجسية مُستترة تُقِرُّ زوجاً من المعايير النقدية، واحدٌ صارم يتناسب ومستوى الفنون الغربية والأوروبية، وآخر متساهل، متسامحٌ إزاء عالم ثالث ومتأخر.
سواء كانت نرجسية عارية، ترى هرمية يتربع الغرب فوقها وتُهمل ما تحتها، أو مستترة، تولي إنصاف قاعدة الهرم على استئهاله بالجدارة، معتبرة ذلك موقفاً أخلاقياً يمليه "عبء الرجل الأبيض"، تبقى المسؤولية على عاتق الفنان، مهما كان أصله ومنشأه، بأن يولّد دوافع الخلق الذاتية، ويحدد بصورة فردية معايير إبداعية خاصة، لا تعترف بأي تفوّق حضاري وتُبنى دوماً على أسس كونية. فالجودة الفنية إنما تكمن بالتجاوز والقدرة على الخرق. وذلك حقٌ لكل فنان، وغاية كل مبدع. أما المتُجَاوَز والمُختَرق عن طريق الفن فهي حدود المادي واليومي، ذلك في سبيل العبور نحو الإنساني والكُلّي، مهما تكن الوسيلة.