في خضم سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، نشر اثنان من علماء ناسا، في عام 1960، ورقةً بحثية بعنوان "سايبورغ والفضاء"، اقترحا فيها أنه بدلاً من محاولة بناء بيئاتٍ شبيهة بالأرض يعيش فيها البشر، يجب تغيير البشر أنفسهم. تخيل العالمان كائنًا سيبرانيًا، أو سايبورغ، يأتي مع نظامٍ مدمج من شأنه أن يعتني بالمشاكل التي يواجهها البشر في الفضاء مثل التنفس، والتمثيل الغذائي، والنوم، والدورة الدموية، وأي ضروراتٍ بيولوجية أخرى، ما يترك الإنسان حرّاً في الاستكشاف، ويعطيه مساحةً للإبداع والتفكير.
لكن غالباً ما تبتعد الإبداعات عن أصولها، فقد أصبحت فكرة سايبورغ إلى حدٍ كبير شخصية شريرة في الخيال العلمي، ومع ذلك ظلت تحمل في طياتها وعوداً وإمكانياتٍ أكثر مما قدمته هوليوود في أفلامها.
كان مصطلح سايبورغ (Cyborg) يطلق على أي كيانٍ تجتمع فيه البيولوجيا مع الصناعة، فإن كنت تركب دراجةً مثلاً فأنت سايبورغ، أو إن كنت تحمل هاتفاً ذكياً أو حتى ساعة حديثة، من "آبل"؛ فأنت أيضاً سايبورغ. إلا أنه مع التقدم العلمي الكبير، خصوصاً في مجال التكنولوجيا الحيوية (Biotechnologies)، أصبح يُقصد به عملية دمج الآلة بالإنسان، بغية منحه قدرات خاصة، في ما بات يعرف باسم "التعزيز البشري" (Human Augmentation). هنا، لا تعملُ الآلات بشكل مكمل، وإنما متكامل، من خلال اتصالها المباشر بالخلايا العصبية. وحتى الآلة هنا لا يُقصد بها الأطراف أو الأجهزة التي تحل محل أعضائنا الحيوية فقط، بل أدوات وأجهزة تمنح خصائص إضافيةٍ للإنسان، مثل تركيب عينٍ ثالثة، لا ترى بها، وإنما تسمع بها "صوت الألوان"، كما فعل نيل هاربيسون عام 2008، الذي كان يعاني من عمى الألوان الشديد، حيث لم يكن يرى سوى الأبيض والأسود، لكنَّه وبفضل التكامل "التكنوبيولوجي"، أصبح هاربيسون سايبورغ حقيقيا. لقد زرع لاقطًا في رأسه، موصولاً بجهاز استشعارٍ يعمل كعينٍ ثالثة، تقوم باستشعار الألوان، ومن ثم إرسال موجاتٍ صوتية إلى شريحة مثبتةٍ في الجزء الخلفي من رأسه، لترسل هذه الترددات إلى عقله، ويقوم هو بدوره بتمييزِ هذه النغمات، وتحدث هذه العملية في وقتٍ قصير جداً.
كان مصطلح سايبورغ يطلق على أي كيانٍ تجتمع فيه البيولوجيا مع الصناعة، فإن كنت تركب دراجةً مثلاً فأنت سايبورغ، أو إن كنت تحمل هاتفاً ذكياً أو حتى ساعة حديثة، من "آبل"، فأنت أيضاً سايبورغ
يقول هاربيسون: "لقد اضطررت لحفظ النغمات، لكن مع مرور الوقت أصبحت تصوراً، ثم شعوراً، والآن أنا أحلم بالألوان". ويضيف: "لقد بدأتُ أحلم بالألوان عندما شعرت بأن البرنامج قد اتحد مع عقلي، لأنه وفي أحلامي، كان ذهني يعمل على إنشاءِ أصواتٍ إلكترونية لم تكن مدرجةً في البرنامج، وعندها بدأت أشعر بأنني مثل سايبورغ، وبدأت أشعر بأنَّ الجهاز المثبت لم يعد جهازاً، لقد أصبح جزءاً من جسدي، وامتداداً لحواسي، وجزءاً من صورتي الرسمية".
يقولون إن الحاجة أم الاختراع. في حالة هاربيسون، كان بحاجة إلى حل مشكلة عمى الألوان لديه. ولكن، لمَ قد يزرع شخص أجهزةً ليس بحاجتها؟ ربما رغبته في أن يكون شخصاً خارقاً. ففي عام 1998، قام رجلٌ أميركي، يدعى كيفن وايريك، بزرع شريحة لبث واستقبال ترددات الراديو في ذراعه. بعدها بأربعةِ أعوام، قام كيفن بزرع واجهات عصبية سمحت له بالتحكم بذراع صناعية موجودة في قارة أخرى، والتواصل مع زوجته عبر شريحة زُرعت في ذراعها.
ثلثا الأوروبيين قد يفكرون مستقبلاً بتعزيز أجسامهم بأدوات تكنولوجية من أجل تحسين حياتهم ومنحهم خصائص وقدرات جديدة
أما اليوم، وبعد عقودٍ من تجارب هاربيسون وكيفين وايريك وغيرهم، أصبحت تقنيات التعزيز البشري أكثر انتشاراً وتطوراً، وهناك تقدمٌ كبير ومستمر، فقد تمكن علماء روس من زراعة شريحة إلكترونية في رأس شخص كفيف، منحته الرؤية مرةً أخرى من خلال الكاميرات المتصلة بالشريحة. كما تمكن علماء آخرون من زرع شريحة منحت شخصاً أبكم القدرة على التواصل مع الآخرين، من خلال فكّ تشفير موجات دماغه العصبية وترجمتها إلى كلام. ولم تعد الأجهزة الطرفية تعتمد على مصادر خارجية للطاقة، بل تستمدها من الجسم نفسه من خلال تحويل الطاقة الحيوية إلى كهربائية. وفي حين كان التعزيز البشري بأجهزة إضافية أمراً مرفوضاً في ما مضى، أصبح الناس أكثر من متقبلين لهذا النوع من التقنيات التي تندمج فيه التكنولوجيا مع البيولوجيا، فقد أظهرت دراسة أجرتها شركة الأمن السيبراني "كاسبر سكاي" أن ثلثي الأوروبيين قد يفكرون مستقبلاً بتعزيز أجسامهم بأدوات تكنولوجية من أجل تحسين حياتهم ومنحهم خصائص وقدرات جديدة.
تمكن علماء روس من زراعة شريحة إلكترونية في رأس شخص كفيف، منحته الرؤية مرةً أخرى من خلال الكاميرات المتصلة بالشريحة
وعلى الرغم ممَّا تبشر به تقنيات التعزيز البشري من حلولٍ واعدة في مختلف المجالات، خصوصاً في المجال الطبي، إلا أنه لا يمكن تجاهل ما قد تحمله من مخاطر على البشرية، إذ إنَّ المفتاح الرئيسي للاستفادة منها هي واجهة الحاسوب والدماغ (BCI)، وهي شرائح إلكترونية تزرع في الجسم وتعتمد على قياسِ نشاط الدماغ ومراقبة موجاته الكهربية، ومن ثم ترجمتها إلى أوامر تنفذها الأجهزة الطرفية التي تم زراعتها، لكن هذه التقنية قد تؤثر سلباً على عمل الدماغ، كما أنَّها قد تكون عرضةً للاختراق، وإذا ما تم اختراقها، سيكون من السهل قراءة نشاطات الدماغ أكثر من أي وقت سبق، وبينما يتدهور جسم الإنسان مع تقدمه في العمر، تتقدم التكنلوجيا في نفس الوقت، فهل يمكن للبيولوجيا أن تواكب هذا التقدم التقني؟ وكيف سيكون مستقبل البشرية في عصر السايبورغ؟