عندما بدأ علماء الكمبيوتر في شركة مايكروسوفت تجربة نظام ذكاء اصطناعي جديد العام الماضي، طلبوا منه حل مسألة تتطلب فهماً بديهياً للعالم المادي. خاطبوا النظام قائلين: "هنا لدينا كتاب و9 بيضات وكمبيوتر محمول وقنينة ومسمار. من فضلك، قل لنا كيف نكدسها بعضها فوق بعض". أُذهل الباحثون ببراعة الذكاء الاصطناعي (AI) الذي جاءت إجابته كالتالي: "ضعوا البيض على الكتاب. رتبوا البيض في ثلاثة صفوف، في كل صف 3 بيضات، مع ترك مسافة بينها. تأكدوا من عدم كسرها. ضعوا الكمبيوتر المحمول فوق البيض، بحيث تكون الشاشة للأسفل ولوحة المفاتيح للأعلى. الكمبيوتر سيكون موقعه مستقراً مع حدود الكتاب والبيض، وسيوفر سطحه منصة ثابتة للطبقة التالية".
الاقتراح الذكي دفع الباحثين إلى التساؤل عمّا إذا كانوا يشهدون نوعاً جديداً من الذكاء. في مارس/ آذار الماضي، نشروا ورقة بحثية من 155 صفحة، يجادلون فيها بأنّ النظام جزء من التوجه نحو الذكاء العام الاصطناعي (AGI)، وهو اختصار لآلة يمكنها فعل أي شيء يمكن للدماغ البشري القيام به.
أثارت "مايكروسوفت"، وهي الشركة الأولى التي تنشر ورقة بحثية تتضمن مثل هذا الادعاء الجريء، نقاشاً حساساً في قطاع التكنولوجيا: هل يطور القطاع ما يشبه الذكاء البشري فعلاً؟ أم أنّ بعض ألمع العقول في هذه الصناعة تسمح لمخيلتها بالتمادي إلى الحدود القصوى؟ مسؤول الأبحاث في "مايكروسوفت"، بيتر لي، قال لصحيفة نيويورك تايمز: "كنت في البداية متشككاً للغاية، ثم تطور شعوري هذا إلى إحساس بالإحباط والانزعاج وربما حتى الخوف. وسألت نفسي: ما مصدر كل هذا؟".
الورقة البحثية التي نشرتها "مايكروسوفت" وحملت عنوان "شرارات الذكاء العام الاصطناعي" تغوص في صميم ما عمل عليه التقنيون، وتخوفوا منه، لعقود من الزمن. إذا طوروا آلة تعمل مثل الدماغ البشري أو حتى أفضل منه، فإن ذلك يمكنه تغيير العالم. لكنها قد تكون خطيرة أيضاً. وقد تكون أيضاً مجرد هراء وفقاً لـ"نيويورك تايمز" التي أشارت إلى أن الادعاءات بوجود ذكاء عام اصطناعي قد تقضي على سمعة علماء الكمبيوتر الذين يطلقونها. فما قد يظنه أحد العلماء دليلاً على الذكاء، قد يجد له زميل له تفسيراً آخر، كما أن النقاشات تتخذ غالباً طابعاً فلسفياً. العام الماضي مثلاً، طردت شركة غوغل مهندساً فيها زعم أن برنامجها للذكاء الاصطناعي واعٍ، وهو ادعاء أبعد من ذلك الذي أطلقه علماء "مايكروسوفت". فامتلاك النظام الوعيَ لا يعني فقط أنه ذكي، بل هو قادر أيضاً على الشعور بما حوله.
وفي مواجهة براعة الذكاء الاصطناعي، تتضاعف التحذيرات حتى من بعض من يقفون وراء تطوير برمجية تشات جي بي تي. وفيما يتقدم الاتحاد الأوروبي ببطء نحو تنظيمه، يبدو أن صعود التكنولوجيا السريع يتجاوز الجميع. قال رئيس شركة أوبن إيه آي المطورة لـ"تشات جي بي تي"، سام ألتمان، أمام مجلس الشيوخ الأميركي الثلاثاء: "نحن بحاجة إلى تنظيم عالمي"، معرباً عن خشيته من أن هذه التكنولوجيا يمكن أن "تسبب أضراراً جسيمة للعالم، من خلال التلاعب بالانتخابات، أو التسبب باضطرابات في سوق العمل". مثله، يطالب عمالقة التكنولوجيا الأميركيون بتأطير استخدامه، فيما يُعلن عن خدمات جديدة للذكاء الاصطناعي كل أسبوع. لذلك، دعت نائبة رئيس شركة آي بي إم للثقة والخصوصية، كريستينا مونتغمري، إلى تنظيم القطاع من دون أن يعوق ذلك الابتكار. وفي إبريل/ نيسان، قال رئيس شركة غوغل، ساندر بيتشاي، إنه "على المدى الطويل، سيكون من الضروري تطوير لائحة تنظيمية عالمية"، ولكن "ما زلنا في البداية".
لكنّ المنشقين عن شركات التكنولوجيا الكبرى هم الأشد ضراوة، ومنهم جيفري هينتون الملقب بعرّاب الذكاء الاصطناعي، البالغ 75 عاماً، الذي استقال من "غوغل"، في أوائل مايو/ أيار الحالي، للتوعية من أخطار هذه التقنية.
في نهاية مارس، طالبت أكثر من ألف شخصية بوقف الأبحاث على الذكاء الاصطناعي مدة ستة أشهر، من بينهم إيلون ماسك الذي يعمل أيضاً على تطوير شركة للذكاء الاصطناعي، والمفكر يوفال نوا هراري المقتنع بأن الذكاء الاصطناعي يمكنه تدمير البشرية. وقال حينها كبير مسؤولي الأخلاقيات السابق في "غوغل" الناشط تريستان هاريس: "لا نريد عالماً تضع فيه خمس شركات الإنسانية على متن طائرة الذكاء الاصطناعي من دون التفكير في المستقبل الذي نريده".
في أوروبا، يدق ناقوس الخطر قبل كل شيء الباحثون والخبراء وواضعو الأنظمة، وتضاعفت في الأسابيع الأخيرة الخطابات المناهضة للذكاء الاصطناعي. أكد مستشارون من شركة فاي سوليس، لصحيفة لوموند الفرنسية، أن "إنتاج الصور ومقاطع الفيديو الزائفة بواسطة الذكاء الاصطناعي يشكل خطراً غير مسبوق على الانتخابات المقبلة". وأضاف الباحث في مجال الذكاء الاصطناعي أوغ بيرسيني: "هناك حاجة ملحة لاستعادة السيطرة على الذكاء الاصطناعي الذي من شأنه أن يتسبب في اضطرابات اجتماعية غير مسبوقة".
في غضون ذلك، يحرز الاتحاد الأوروبي تقدماً بشأن قانون الذكاء الاصطناعي الخاص به. خلال الأسبوع الماضي، وافق البرلمان الأوروبي على إطار عمل يجب التصويت عليه في يونيو/ حزيران المقبل. لكن الأمر سيستغرق سنوات قبل وضعه موضع التنفيذ. سيفرض النص على أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية، مثل "تشات جي بي تي"، الحصول على إذن مسبق وشفافية الخوارزميات والبيانات الخاصة بها. وقالت مديرة الخصوصية في شركة الاستشارات ويبرو، إيفانا بارتوليتي: "يتفق الجميع على الحاجة إلى قواعد، حتى الشركات". وأكدت أن التفكير جارٍ على مستوى مجلس أوروبا والولايات المتحدة والأمم المتحدة. وأضافت: "نحن بحاجة إلى عدم إطلاق تصريحات منذرة، فهذا لن يؤدي سوى إلى أن يرعب الناس بدلاً من مساعدتهم على تعلم استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول"، وفقاً لما نقلته وكالة فرانس برس.
لكن في أوروبا كما في الولايات المتحدة، تركز الدوائر الاقتصادية على السباق نحو الذكاء الاصطناعي، نظراً لإمكاناته الاقتصادية فضلاً عن أهميته الجيوسياسية، فهو "عنصر من عناصر الأمن القومي"، كما قال الرئيس التنفيذي لشركة غوغل.
في أوروبا، تخشى الشركات والسياسيون المؤيدون للذكاء الاصطناعي من أن يضر قانون الذكاء الاصطناعي أكثر مما ينفع. وقال جيل بابينه في مجلة لا تريبون: "يجب أن نأخذ العبر من اللائحة الأوروبية للبيانات الشخصية. فهذه بدلاً من أن تبطئ جماح الشركات الرقمية الكبرى، أعطتها ميزة"، لأن شركات "غافا" (غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون) وحدها لديها جيش المحامين الضروري. وبابينه هو رئيس المجلس الوطني الرقمي الذي تعين الحكومة أعضاءه في فرنسا. وأضاف أنه من غير المطروح اتباع مثال هيئة حماية البيانات الإيطالية (CNIL) التي حظرت "تشات جي بي تي" ثلاثة أسابيع لأنه جمع بيانات من دون تصريح، ثم أعيد الترخيص للبرمجية الأميركية بعد التزامها بالامتثال، ولكنها تواجه شكاوى مماثلة في أماكن أخرى في الاتحاد الأوروبي.
وأكد الوزير الفرنسي السابق للمجال الرقمي سيدريك أو: "لا يمكن لأوروبا أن تفوت مثل هذا الاختراق التكنولوجي المهم مرة أخرى. نسخة قانون الذكاء الاصطناعي ترقى بحكم الواقع إلى حظر ظهور نماذج باللغات الأوروبية" لتحليل النصوص والترجمة ومخاطبة الآلة.
ومن دون تحديد الأسباب، أعلنت "غوغل" هذا الأسبوع عن نشر برمجية بارد المنافسة لـ"تشات جي بي تي" في 180 دولة، ولكن ليس في الاتحاد الأوروبي.