الإعلام والنازحون السوريون: من يرسم الحدود؟

27 ديسمبر 2022
لسنوات شكّلت مأساة النازحين مادة جذب إعلامي (رامي السيد/فرانس برس)
+ الخط -

"حلمي خيمة"، كانت هذه أمنية الطفلة السورية شهد لعام 2021، خلال لقاءٍ أجرته معها إحدى القنوات التلفزيونية. سريعاً جداً انتشر المقطع محققاً ملايين المشاهدات على مواقع التواصل، لتحصل الفتاة الصغيرة وعائلتها على دعم مادي كبير من قبل متبرعين حول العالم.
تكررت حالة الطفلة شهد خلال التغطيات الصحافية لمأساة سكان المخيمات، فشاهدنا استغاثة عشرات الأطفال، آخرها لطفل ظهر باكياً مع أحد الناشطين، وحين سأله "لِماذا تبكي؟" أجاب "أبكي لأنني لا أستطيع إطعام إخوتي". ومجدداً تلقى مساعدات عدة.

انتهاك الخصوصيات والكرامة

ما سبق عيّنة صغيرة من الضوء الذي تسلّطه وسائل الإعلام على الأوضاع الإنسانية للنازحين في المخيمات السورية. ضوء يؤدي في أوقات كثيرة إلى حلول فردية أو مساعدات محدودة النطاق. وقد شكل سكّان المخيمات طيلة سنوات مادة صحافية دسمة، ومشروعاً "إنسانياً" لعدد كبير من المنظمات غير الحكومية. كما استقطب هؤلاء المصورين والـ"يوتيوبرز" والمؤثرين الذين التقطوا صوراً ولقطات وفيديوهات متجاهلين، في أغلب الأحيان، أخلاقيات الصورة في العمل الصحافي، منتهكين كرامة النازح وأطفاله، مبرزين وجهه في أوقات عدة من دون إذنٍ، وطارحين أسئلة تهدف أولاً وأخيراً إلى تصوير دموع أو رعشة برد. 
ينص "ميثاق شرف الإعلاميين السوريين" في مادته الخامسة على احترام مبادئ حفظ كرامة الإنسان، وصون حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة وفاقدي الأهلية، والتعامل مع الأطفال والقاصرين بحذر أثناء التغطية وعدم استغلال الوضع الاجتماعي والإنساني والاقتصادي في مناطق التغطية. في هذا الإطار، يقول الصحافي السوري مرشد النايف في حديثه لـ"العربي الجديد" إنّ انتشار عشرات الصور الصادمة والمشحونة عاطفياً للاجئين غير مبررة ولا تعزز فهم الجمهور محنة هؤلاء.
وفي حديثه عن الأذى المستدام، يوضح النايف أنّ المصور الصحافي قد لا يقدّر الأذى طويل الأمد لصورة طفلة أُظهر وجهها وهي في "حالة العوز". ويضيف أنّ "الإنترنت سيحفظ صورة طفلة ضعيفة قد تنفر بعد أن تكبر من ماضيها أمام أولادها، وتزعج الأب العاجز عن تحصين ابنته من كاميرا مصور وناشر جاهلَين".
ويلفت إلى ضرورة طلب الإذن من الأطفال وذويهم قبل التصوير مع إيضاح المكان والزمان الذي ستُستخدم الصورة فيه، مؤكداً على أن الصورة سياق إضافي وعنصر بصري قوي للقضايا المطروحة لكنها ليست درجة إضافية على سُلّم مجد المصور.

المصور الصحافي قد لا يقدّر الأذى طويل الأمد لصورة التقطها

وبعيداً عن القوانين، يعزو مرشد النايف الهشاشة المهنية التي تُعرض الأطفال لانتهاكات حقوقية "موجعة" إلى كسل الصحافي أو المحرر في بعض الأحيان "في البحث عن المبادئ التوجيهية وعن أفضل الصيغ لمنح صوت لمن لا صوت لهم". ويلفت النظر إلى أنّ المرجعيات ذات الموثوقية متاحة للجميع، وأنّ هناك موارد غزيرة جداً لضمان تغطية مسؤولة عن الأطفال وتمثيلهم بمعايير دقيقة، وعادلة، ومسؤولة، وإنسانية.

غياب القوانين 

ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (الأمم المتحدة/1966) في مادته الـ17 على أنه لا يجوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، للتدخل في خصوصياته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته.
كما يشترط دليل "يونيسف" لأخلاقيات صحافة حقوق الطفل (2016) على "وجوب استشارة أقرب الأشخاص لوضع الطفل وأفضلهم قدرة في تقييم ما يترتب على التقرير الصحافي من تبعات سياسية واجتماعية وثقافية".
يعقب مدير الدفاع المدني السوري، رائد الصالح على هذا الشأن بالقول لـ"العربي الجديد" إنّ غياب القوانين في الحالة السورية يترك الضوابط لأخلاقيات الإعلاميين والصحافيين، و"الحصول على إذن بالتصوير من أولياء الأطفال مع ذكر اسم الوسيلة الإعلامية غير كافٍ في كثير من الأحيان، إذ إن الأشخاص يجب أن يكونوا على دراية بالنتائج التي تترتب على استخدام صورهم وقصصهم والتبعات السلبية التي قد تؤدي إليها عملية النشر".
ويكشف الصالح أن بعض المؤسسات العاملة في المجال الإنساني تعتمد قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة" لكسر قواعد التغطية المهنية وحفظ كرامة المستفيد، مؤكداً على حاجة الحالة السورية إلى ضوابط حقيقية لحفظ كرامة السوريين وعدم تحويلهم إلى مادة للاستهلاك الإعلامي تجعلهم ضحايا دائمين بسبب نشر مادة صحافية عنهم وعن أطفالهم قد يلاحقهم أذاها مدى الحياة.
أما عن سكّان المخيمات فيقول الصالح: "نحن نعيش يومياً حالة من الأسئلة اللامتناهية حول أخلاقيات التصوير والنشر، علماً أنّ تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية قد يكون أحد أسباب قبول الأهالي بالتصوير".

تغطية الواقع المرير لا تتضارب مع المهنية

وبحسب النايف فإنّ معايير جودة المادة الصحافية تقتضي بأن يحافظ التحرير على تكامل محتوى الصور وسياقها: "هذا التناسق لا يتعارض مع الواقع لكنه يضمن تقديم السياق مع تجنب تنميط الأفراد والجماعات، إذ لا يُمكن حصر اللاجئين بصفتهم مجموعة من الضحايا".
ويطلعنا النايف على استنتاج خرجت به مجموعة خبراء من الإعلاميين في إحدى الورش في باريس، يفيد بأن غرف التحرير الحديثة تفتقر إلى القدرة على التعامل مع مثل هذا الوضع غير المسبوق أي موجات اللجوء والنزوج الجماعي. ولعلّ أفضل 
الوسائل المتاحة لتأمين تغطية مهنية هي مدونات السلوك المهني التي تغطي جميع قطاعات الإعلام فتشكل بذلك مرجعيات عمل تحكم الصحافي.

آثار سلبية على القضية وأصحابها

على الصعيد النفسي والاجتماعي، يقول طبيب النفس العام ورئيس الجمعية السورية للصحة النفسية (سمح) ملهم الحراكي لـ"العربي الجديد" إنّ عرض القصص المأساوية لقضية ما، يعطي أثراً ويؤدي إلى التعاطف في المرات الأولى، لكنّ تكرار العرض للمأساة يقلل من قيمة أصحابها، ويُكسب المشاهد شيئاً من العجز عن المساعدة.
أما في ما يخص الآثار النفسية على الطفل الذي ينال الشهرة على مواقع التواصل الاجتماعي بغض النظر عما إذا كانت شهرته سلبية أو إيجابية، فيقول الحراكي إنّ النتيجة ستكون سلبية في الحالتين، لأنّ الدراسات التي تابعت مسيرة الأطفال المشاهير توصلت إلى أنّ الكثير ممن نالوا شهرة قبل سن العاشرة أو في المراهقة فشلوا في مختلف نواحي الحياة لاحقاً.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

مديرة الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري، كندة حواصلي، تصف خلال حديثها لـ"العربي الجديد" التركيز على الحالة الفردية لمأساة طفل ما بـ"السلاح ذي الحدين"، لأنه قد يسبب عقدة للطفل، بخاصة أولئك الذين يتميزون بملامح مميزة تبقى في الذاكرة، ما قد يؤدي إلى الملاحقة والتعرف عليهم لمدى طويل. لكنّه في الوقت نفسه حاجة ملحّة للمتبرع لكي يرى حالات حقيقية وملموسة على أرض الواقع.
وتضيف حواصلي أنّ حصول حالة واحدة على الدعم بسبب شهرتها هي إشكالية لا تتعلق بالأداة الإعلامية بالضرورة، بل بالمنظمات التي يجب أن تستفيد من حالة الترند الحاصلة كي تضيء على المشكلة كاملة والبدء بجمع التبرعات من أجل الآخرين ممن يعانون الظروف ذاتها.

لا حلول دائمة

أظهرت دراسة للدفاع المدني السوري في أواخر عام 2021 أنه رغم تدخل الجهات العاملة في الشأن الإنساني فإنها لم تخلق حلولاً لأكثر 42 في المائة من مشاكل المخيمات، ما يدل على غياب الحلول الدائمة، التي يجب أن تقررها حكومات وسياسات وفقاً لخطط واضحة طويلة الأمد.
يقول مدير الدفاع المدني السوري، رائد الصالح إنّ حلّ الأزمة الإنسانية في سورية هو حل سياسي وليس إنسانيا يرتبط بقرار أممي دولي يوقف هجمات القصف الروسي والنظام السوري، مشيراً إلى أنّ إطلاق حملات أو خطط خاصة بالمخيمات مرتبط بإمكانيات الدعم الأممي والإنساني، وهي قضية ليست سهلة، بخاصة أنّ هناك 1500 مخيم تضم أكثر من مليون ونصف نازح. كما يشير إلى محاولات روسيا المتكررة إغلاق معبر باب الهوى الحدودي أمام المساعدات ومحاولة حصار المنطقة وتجويع النازحين وربط الدعم الأممي بالنظام السوري.
كما يؤكد الصالح على أن الحملات مهما كانت كبيرة وسخية لا يمكنها حل الأزمة الإنسانية، وجميع الحلول هي إسعافية طارئة وغير كافية بما فيها بناء المخيمات الإسمنتية. حيث بلغ عدد المهجرين داخلياً 6.9 ملايين نازح، ويضم الشمال الغربي وحده 2.8 مليون نازح. وهي الأرقام التي تؤكد أن أي حل فردي أو "خيري" ليس إلا حلّاً مؤقتاً غير قادر على تأمين حياة كريمة ومستقرة لهؤلاء، أمام أزمات الجوع، والمرض، والطقس العاصف طيلة أشهر.

المساهمون