منذ انطلاق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، سقطت الصحافة الغربية في أخطاء متتالية، تارة بنشر أخبار كاذبة (قطع مقاومي كتائب القسام رؤوس 40 طفلاً إسرائيلياً على سبيل المثال)، وتارة أخرى، باعتماد الرواية الإسرائيلية حصراً والترويج لها، في تحريض واضح على أهالي قطاع غزة المحاصر منذ أعوام طويلة.
ولعلّ الانطباع الرئيسي لقارئ الإعلام الغربي (الأميركي، والبريطاني، والفرنسي، والألماني بشكل أساسي) هو التركيز، مباشرة، أو من خلال التصريحات المنقولة، على أن حياة الفلسطينيين ومعاناتهم أقل قيمة من حياة الإسرائيليين، ما أعطى شرعية إعلامية للإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في القطاع.
ففي الأسابيع الثلاثة الأولى، غرقت الصحف والقنوات الغربية بالقصص الإنسانية للقتلى الإسرائيليين الذي سقطوا في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بينما كان الغزيون مجرد أرقام في عداد الموتى. جاءت هذه التغطية الإعلامية لتكمل خطاباً سياسياً إسرائيلياً وأميركياً، يرى الفلسطينيين "حيواناتٍ بشريةً" على حد وصف وزير دفاع الاحتلال يوآف غالانت مع بداية العدوان. وهو الخطاب الذي كرره الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ عن أن "الأمة كاملة (الفلسطينيون في غزة) تتحمل المسؤولية عما جرى أثناء هجوم حماس، وليس صحيحاً القول إن المدنيين في غزة غير ضالعين في الأمر، كان بإمكانهم الانتفاضة ومحاربة (حماس)"، في تجريد واضح للغزيين من إنسانيتهم ومن صفتهم المدنية. وأميركياً، لنأخذ على سبيل المثال آخر التصريحات التي تصب في السياق نفسه، أي ما قاله عضو الكونغرس الأميركي عن ولاية فلوريدا براين ماست: "لا يمكن استخدام عبارة (المدنيون الغزيون الأبرياء)، تماماً كما لا يمكن قول: المدنيون النازيون الأبرياء"، في تشبيه للمدنيين الفلسطينيين بالنازيين، وبالتالي شرعنة قتلهم المتواصل منذ أكثر منذ 25 يوماً.
وإن كان الكلام السياسي الإسرائيلي والأميركي قد اختار تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، فإن الإعلام الغربي بدا متماهياً في أوقات كثيرة منذ 7 أكتوبر مع هذا الخطاب. فبعد مجزرة جباليا الثلاثاء الماضي، نشرت "سي أن أن بالعربية" خبراً عن المجزرة بالصيغة التالية "انفجار ضخم في مخيم جباليا للاجئين في غزة يسفر عن سقوط العديد من الضحايا". خبر مجهّل، بلا تفاصيل، مجرد حديث عن انفجار، وعن "العديد من الضحايا".
هذا التعامل، بكل هذه الخفة، مع سقوط عشرات الشهداء، انسحب على تغطيات كثيرة أخرى. مثلاً، في تغطيتها مجزرة المستشفى المعمداني، لم تقدّم هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أسماء للشهداء الفلسطينيين، ولا أعماراً، ولا صوراً، ولا تطلعات. هم فقط "500 قتيل على الأقل"، و"معظمهم من النساء والأطفال" (المؤسسة البريطانية استخدمت المزدوجين). تحول الشهداء الغزيون إلى كتلة واحدة من "500 قتيل"، لا أسماء لهم، ولا حياة بينما خصصت مساحات واسعة للقتلى الإسرائيليين وقصههم. هذه حال "بي بي سي" المموّلة من الشعب، وتملك ضمانات وحسابات تجعلها أكثر توازناً.
وعبر شاشة شبكة فوكس نيوز الأميركية، دعا السيناتور ليندسي غراهام إلى التدمير الشامل لغزة، مبرّراً ذلك بالقول: "نحن في حرب دينية هنا. أنا مع إسرائيل. افعلوا ما عليكم فعله بحق الجحيم للدفاع عن أنفسكم".
وفي بريطانيا، كتب محرّر صحيفة جويش كرونيكل، جيك واليس سيمونز، على "إكس" (تويتر سابقاً) أن "قسماً كبيراً من الثقافة الإسلامية يقع في قبضة طائفة الموت التي تقدّس سفك الدماء"، قبل أن يحذف تغريدته بعد رد فعل عنيف.
في مقال لها نُشر في النسخة الإنكليزية من "العربي الجديد"، قالت الباحثة في قسم التاريخ في جامعة جورج تاون، سمر سعيد، إن التغطية الإعلامية الغربية للفلسطينيين باعتبارهم إرهابيين عنيفين قد أدّت إلى تجريدهم من إنسانيتهم، وإضفاء الشرعية على جرائم إسرائيل ضدهم. ولفتت سعيد إلى أن "الإعلام لا يعفي إسرائيل من أي مسؤولية فحسب، بل يصورها أيضاً أنها ضحية، بينما لا يذكر أبداً أن الفلسطينيين يقاومون قوة نووية استعمارية بجيش يعتبر من بين أقوى 20 جيشاً في العالم".
وفي مواجهة هذا العنف الإسرائيلي، قالت سعيد: "لم تستثمر وسائل الإعلام مواردها قط لإظهار جزء صغير من الوحشية اليومية التي يتعرض لها الفلسطينيون، والاغتيالات، والسجن على يد القوة الاستعمارية الإسرائيلية".
وذكّرت بأن عدداً قليلاً من الفلسطينيين حاولوا دحض روايات وسائل الإعلام الغربية المعادية للإسلام والعنصرية حول فلسطين، ولكن سرعان ما قُمعت أصواتهم، ولم تُنشر مقابلاتهم. كما ذكّرت بأن المرة الوحيدة التي أولت فيها وسائل الإعلام هذا القدر من الاهتمام للفلسطينيين كانت عندما لجؤوا إلى المقاومة المسلحة للدفاع عن أنفسهم مرة أخرى.
وأكدت سعيد أن التطبيع مع تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم لافت للنظر، لدرجة أنه أدى إلى دعوات إلى القتل الجماعي للفلسطينيين، إذ جرى تصوير المستعمِرين أنهم ضحايا والمستعمَرين أنهم أشرار.
كريس ماكغريل، وهو مراسل غطى الإبادة الجماعية في رواندا، قال إن اللغة التي تستخدمها إسرائيل "مألوفة إلى حد مخيف". وفي مقال له نشرته صحيفة ذا غارديان البريطانية، كتب ماكغريل أن "اللغة اللاإنسانية التي تتسرب من إسرائيل، ومن بعض مؤيديها في الخارج هي من النوع الذي يُسمع في أوقات وأماكن أخرى، والذي ساعد على خلق مناخ ترتكب فيه جرائم فظيعة".
ولفت ماكغريل إلى أن "أولئك الذين قادوا ونفّذوا الإبادة الجماعية في رواندا كثيراً ما وصفوا التوتسي بأنهم غرباء ومتطفلون، واعتبروا القتل عملاً من أعمال الدفاع عن النفس، تحت شعار إذا لم نفعل ذلك بهم، فسيفعلون ذلك بنا. كما جرى الحط من قدر التوتسي باعتبارهم صراصير"، وهي الكلمة التي استخدمها أيضاً قائد قوات الدفاع الإسرائيلية لوصف الفلسطينيين.
وقد وصف قادة سياسيون وعسكريون ودينيون إسرائيليون آخرون، في أوقات مختلفة، الفلسطينيين بأنهم "سرطان" و"حشرات"، ودعوا إلى "إبادتهم". وكثيراً ما يجرى تصويرهم أنهم متخلّفون ويمثلون عبئاً على البلاد.