يبدو أن الإعلام التونسي يعرف من سنة إلى أخرى تراجعاً في مجالات عدة تتعلق بحرية الصحافة والترسانة القانونية المقيدة والأزمة المالية الخانقة التي تمرّ بها المؤسسات الإعلامية، بالإضافة إلى محاولة العودة بهذا الإعلام إلى مربع التقييد والتعليمات مثلما كان قبل 2011، سنة نجاح الثورة التونسية.
وضعية الإعلام التونسي يراها الكثيرون من الفاعلين في القطاع غير مطمئنة وتدعو إلى الحيطة والحذر، في سياق يراه هؤلاء عدائياً لحرية الرأي والتعبير من خلال عدد من المؤشرات الدالة.
ارتفاع متواصل للاعتداءات
سجل التقرير السنوي للاعتداءات على الصحافيين التونسيين سنة 2023 ارتفاعاً، إذ وصل عددها إلى 210 اعتداءات، طاولت 237 ضحية، بينهم 92 من الإناث و145 من الذكور، وتوزعت من حيث المهام بين 193 صحافية وصحافياً، و40 مصوراً صحافياً، ومعلّقَين اثنين، ومديرين اثنين لمؤسّسات.
وقد تعلقت الاعتداءات في الإعلام التونسي بالمواضيع الانتخابية في 60 حالة، والمواضيع ذات الطابع الاجتماعي في 27 حالة، والمواضيع المتعلقة بالإرهاب وغسيل الأموال في 11 حالة، والمواضيع المتعلقة بالاحتجاجات في 11 حالة، والمواضيع الثقافية في 10 حالات، والمواضيع المتعلقة بالهجرة غير النظامية والمواضيع البرلمانية في 8 حالات لكل منها، والمواضيع الرياضية والمهنية والأمنية في 6 حالات اعتداء لكل منها، والمواضيع الصحية والفلاحية في 5 حالات اعتداء لكل منهما، والمواضيع المتعلقة بمكافحة الفساد في 3 حالات اعتداء، والمواضيع الاقتصادية في حالتين اثنتين، والمواضيع التربوية في حالة واحدة.
وقد سجّل الإعلام التونسي 178 اعتداءً في الفضاء الواقعي، من ضمنها 122 اعتداءً في الميدان، و29 اعتداءً في مقر العمل، و18 أثناء بث مراسلة، و6 في مجلس نواب الشعب، و3 اعتداءات عبر وسائل الإعلام، إضافة إلى 32 اعتداءً في الفضاء الرقمي.
واعتبر نقيب الصحافيين التونسيين زياد دبّار، في تصريح لـ"العربي الجديد"، هذه الاعتداءات "غير مقبولة ومدانة ومرفوضة وتستدعي الكثير منها الملاحقة القضائية، لكن سياسة الإفلات من العقاب للمعتدين جعلت هذه الاعتداءات تتكرر وتتواصل بنسق تصاعدي، مما يعيق عمل الصحافيين ودورهم في إيصال المعلومة للمواطن التونسي".
المرسوم 54... سيف مسلط على رقاب الإعلام التونسي
منذ سنّ المرسوم عدد 54 في 13 سبتمبر/ أيلول 2022 والمنظمات الحقوقية والنقابية، ومنها النقابة الوطنية للصحافيين والجامعة العامة للإعلام، تدعو إلى إلغاء هذا المرسوم المكبِّل لحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والمجرِّم لهذه الحقوق، وتصل بعض العقوبات بموجبه إلى عشر سنوات سجناً.
ورغم تعالي الأصوات الرافضة، لم تولها السلطات التونسية اهتماماً، بل استُخدم المرسوم في الملاحقة القضائية لعدد من الصحافيين بعد شكاوى تقدم بها بعض أعضاء الحكومة، مثل شكوى وزير الشؤون الدينية ضد الصحافيين منية العرفاوي ومحمد بوغلاب، مما استدعى التحقيق معهما ونشر قضايا ضدهما.
كما جرى التحقيق، وفقاً لنفس المرسوم، مع الصحافي زياد الهاني، في أكثر من مناسبة، بسبب تصريحاته في البرنامج الصباحي الإذاعي الذي يشارك فيه في إذاعة "إي أف أم".
واعتبر نائب رئيس الجامعة العامة للإعلام، محمد الهادي الطرشوني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، محاكمة الصحافيين وفقاً للمرسوم 54 غير مقبولة، "لأن القطاع الإعلامي له النصوص القانونية التي تنظم عمله، وهما المرسومان 115 و116، اللذان يُفترض العمل بهما، لا العمل بنصوص زجرية لا علاقة لها بقطاع الإعلام".
صحافيو الإعلام التونسي خلف القضبان
تمر سنة 2023 وما يزال الصحافيان خليفة القاسمي وشذى الحاج مبارك يقبعان خلف القضبان بسبب عملهما الإعلامي.
ويقضي خليفة القاسمي عقوبة بالسجن مدتها خمس سنوات، بسبب نشره خبراً حول إفشال عملية إرهابية في محافظة القيروان على موقع الإذاعة الخاصة "موزاييك أف أم". وأحيل على القضاء وفقاً لقانون تجريم الإرهاب، وحُكم عليه بالسجن النافذ لمدة خمس سنوات. ورغم أن محامي خليفة القاسمي لجأوا إلى محكمة التعقيب (النقض) منذ أشهر، إلا أن هذه المحكمة لم تنظر بعد في قضيته لأسباب إدارية.
أما شذى الحاج مبارك فأوقفت على خلفية ما يُعرَف إعلامياً في تونس بـ"قضية إنستاليغو"، وهي قضية اتُّهم فيها عدد من الصحافيين والمدونين بالعمل في هذه الشركة المختصة في إنتاج المحتوى الرقمي، لـ"نشر أخبار من شأنها حمل السكان على التقاتل والاعتداء على أمن الدولة والإساءة إلى رئيس الدولة".
وطالبت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، على لسان نقيبها زياد دبّار، بـ"إطلاق سراح الزميلين المحتجزين على خلفية عملهما الإعلامي، ووقف هذه المحاكمات التي تقيد من حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة".
أزمة مالية تخنق الإعلام التونسي
أما على المستوى الاقتصادي، تعاني المؤسسات الإعلامية من أزمة مالية خانقة، فما عدا المؤسسات الإعلامية الرسمية التي تتلقى تمويلاً من الدولة التونسية، تعاني جلّ المؤسسات الأخرى من تراجع عائدات الإعلانات التجارية، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تونس.
ويقدّر المختصون في اقتصاد الإعلام تراجع الحقيبة المالية المخصصة للإعلانات التجارية في وسائل الإعلام التونسي بما يناهز 30 في المائة، وهو تراجع اضطر سبع إذاعات خاصة، وهي "إي أف أم" و"أكسيجين أف أم" و"صبره أف أم" و"كنوز أف أم" و"أف أم أم" و"وازيس أف أم" و"أوليس أف أم"، إلى العمل على إرساء تحالف بينها لجلب العائدات التجارية.
الوضعية المالية للمؤسسات الإعلامية، وخاصة الصحافة المكتوبة، انعكست سلباً على الوضعية الاجتماعية للصحافيين، إذ يعاني الكثير منهم من عدم سداد أجورهم وعملية تسريح اضطراري لهم وإحالتهم على البطالة الإجبارية.
ويخشى المتابعون للشأن الإعلامي التونسي أن تكون الحالة الاجتماعية للصحافيين بمثابة المدخل للتضييق على عملهم، واستغلال وضعيتهم الاجتماعية لتوجيههم لخدمة أهداف سياسية ما.
آفاق مستقبل الإعلام التونسي غير واضحة
أما عن الآفاق المستقبلية للإعلام التونسية فهي غير واضحة في مجال حرية الصحافة، وكذلك في مجال التشريعات المنظمة لهذه القطاع.
ويخشى المتابعون سن نصوص قانونية جديدة قد تزيد في التضييق على حرية الصحافة، في ظل تهميش الهياكل التعديلية الناشطة في المجال مثل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري ومجلس الصحافة.
لكن يبقى دور الهياكل النقابية مهماً في المجال الإعلامي من حيث الحرص على حماية حرية الصحافة من مزيد التضييق، وهو ما تؤكده عضوة المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين جيهان اللواتي التي تقول: "نحن نتعامل بحذر مع واقع حرية الصحافة، وندعو إلى اليقظة والالتفاف حول النقابة للدفاع عن حرية الصحافة وصون المكتسبات الإعلامية".