الإبداع بالنار: جان بوغوصيان.. لأن الفن هو الحل

أنس أزرق

50FDB18D-D036-40E9-966A-28896A712969
أنس أزرق
17 فبراير 2024
الإبداع بالنار: جان بوغوصيان مثالاً
+ الخط -

يجسد الفنان جان بوغوصيان مثال الفنان الكوني فهو وُلد في مدينة حلب السورية عام 1949 من عائلة أرمنية لجأت الى سورية أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكنها قررت الانتقال منها، بعد قرارات التأميم الناصرية عام 1961 ولاحقا انقلاب 8 آذار/ مارس عام 1963، إلى لبنان فغادر جان حلب إلى بيروت في عمر المراهقة، وما إن ازدهرت أعمال الأسرة في قطاع المجوهرات حتى اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، فحزمت الأسرة حقائبها "مع أول رصاصة" ورحلت مكرهة للمرة الثالثة باتجاه بلجيكا حيث أحد أهم مراكز العالم في صناعة وتجارة المجوهرات.
عمل جان منذ يفاعته كأي طفل أرمني مهاجر في حلب باجتهاد، فتعلم منذ السادسة الرسم لتصميم المجوهرات ثم أصبح خبير الأسرة في أحجار الزمرد والياقوت والألماس، ولكن الفن كان هاجسه فقرر ترك عالم الأعمال الناجح للتفرغ للفن نهائياً.
وللوجود الأرمني في حلب طعم خاص، فوجودهم وعلى عكس ما يظن البعض سابق لمأساتهم في الحرب العالمية الأولى، ويمتد إلى قرون قبل ذلك. ويذكر الباحث الحلبي علاء السيد أن "أقدم ذكر لوجودهم يعود لسبعمائة سنة على حاشية مخطوطة أرمنية ذُكر فيها أنها نُسخت في عام 1329 م في حلب في كنيسة السيدة بحارة الصليبة (في حي الجديدة) وهي كنيسة أرمنية قائمة حتى الآن". ويضيف أنه قد "انتخب منهم التاجر مانوك قراجيان في مجلس المبعوثين الأول كأحد النواب عن حلب".
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى استقبلت حلب موجة نزوح أرمنية قدرت بـ60 ألف لاجئ وهي تعد نسبة حوالي 20% من تعداد سكان المدينة حينها، وسرعان ما اندمجوا في اقتصاد المجتمع وتنمية بعض المهن كصياغة الذهب وإصلاح السيارات وصناعة الأحذية، وساهموا أيضا في الحياة السياسية السورية، ولا سيما من خلال الحزب الشيوعي. تلاحظ في لوحات بوغوصيان هذا الترحال والاغتراب والقدرة على الانطلاق من جديد وتلعب النار دوراً محورياً بتوضيح هذه العلاقة بين "التدمير والتجديد" حيث تطبع طريقة الحرق بالنار أعماله. 
التقيت جان في الدوحة أثناء افتتاح معرضه (نيران) في غاليري (أنيما) في قطر، وكان هذا الحوار:
*هل يقلقك سؤال الهوية؟
نعم، من الطبيعي لشخص عاش في عدة بلدان وعانى هو وأهله ما عاناه أن يكون هذا السؤال حاضرا، ولكنني توصلت للحل بأن أكون مواطنا عالميا مع الإنسان أينما كان، ومع محو الفوارق والحدود والمحافظة على الأرض التي نعيش فيها وضد الحروب. أنت ترى اليوم معاناة أهل غزة ولا أحد يتحرك، هذا ليس معقولاً!
*ما ذكرياتك عن حلب وبيروت؟
أتذكر بيت العائلة، بيت جدي في العزيزية في حلب التي غادرتها في سن المراهقة ولم أعد إليها إلا عام 2009 بسبب الخدمة العسكرية الإجبارية في سورية، عندما عدت كان كل شيء قد تغير في حلب، وللأسف الآن دمر جزء من هذه المدينة التاريخية التي كانت نقطة التقاء الشرق بالغرب. في بيروت انخرطت في عمل عائلتي بالمجوهرات، ولكننا غادرناها مع أول رصاصة في الحرب الأهلية، فأنا لا أريد الموت بلا ثمن اعتباطا. لبنان ما زال يعاني، وآخر معرض لي بعنوان (البناء بالنار) في بيروت كان عام 2018 في مبنى صحيفة لوريان لوجور في المنطقة التي تضررت من انفجار المرفأ، وفي قلب الأسواق القديمة التي شهدت الحرب الأهلية.

من معرض (البناء بالنار) للفنان جان بوغوصيان في بيروت 2018 (العربي الجديد)
لوحة من معرض (البناء بالنار) للفنان جان بوغوصيان في بيروت 2018 (العربي الجديد)

*كيف انتقلت من عالم المجوهرات الى عالم الفن؟
عالم المجوهرات والأحجار الكريمة مرتبط بعالم الفن، وأصبحت مختصا بتصميم وتجارة الأحجار الكريمة، ولا سيما الزمرد والياقوت والألماس. سافرت في العشرين من عمري الى كولومبيا والبرازيل وأميركا الجنوبية لشراء الزمرد وإلى بورما وتايلاند لشراء الياقوت وتعلمت في الهند، في جايبور وبومباي، تجارة وصناعة الألماس. لم يكن السفر سهلا وقتها حيث تحتاج لأربع محطات توقف وأكثر من يوم للوصول الى هونغ كونغ مثلا. بعت مجوهراتي في إيران التي كانت أيام الشاه من أكثر الأسواق التجارية ازدهاراً في تبادل المجوهرات، ولكن الأمر تغير مع ثورة الخميني عام 1979. تاجرت كثيرا مع المملكة العربية السعودية والخليج عموما التي ازدهر سوقها بعد حرب 1973.
*من كان يشتري في الخليج؟
الأمراء ثم المقتدرون من عامة الناس، وقد نما سوق المجوهرات كثيرا في هذه البلدان، ولا سيما بيع المجموعات التي تهدى في المناسبات وتحديدا الزواج. أثناء عملي في المجوهرات بدأت الدخول إلى عالم الرسم، وكنت أريد الانتقال من عالم التصميم والعرض إلى عالم التجريد، ونقلت عملي بالنار مع الذهب والأحجار الكريمة إلى لوحاتي، وكذلك تجد ألوان أحجار الزمرد والياقوت متغلغلة في أعمالي. 

لوحة من معرض الفنان جان بوغوصيان في الدوحة وتظهر الوان الاحجار الكريمة فيها (العربي الجديد)
لوحة لفنان جان بوغوصيان من معرض الدوحة 2024 وتظهر فيها الوان الاحجار الكريمة (العربي الجديد)

*تستخدم تقنية النار في أعمالك، وعلى عكس ما هو مألوف فالنار تخرّب وهي عذاب حتى في الآخرة، كيف انتقلت عندك لطاقة إيجابية؟
النار عنصر أساسي في الكون ومع اكتشافها انتقل الإنسان إلى الحضارة، تعلمت استخدام النار أثناء عملي صائغاً، فأنت كي تعيد تصميم الذهب تعالجه بالنار، وكذلك هناك فرق بين الأحجار الكريمة الطبيعية والأحجار المعالجة حيث تدخل النار في الصياغة النهائية. النار قوة تحويلية هائلة، وعليك أن تكون قادراً على توجيهها للبناء وليس للدمار. اعتمدتُ الرسم بتقنية النار، ولست أول من فعل ذلك فهناك حركة زيرو وحركة فلوكسس، وفنانون من أمثال بوري وفونتانا وبولوك وكلاين وكونيليس. 

الفنان جان بوغوصيان واسلوب الحرق بالنار (العربي الجديد)
الفنان جان بوغوصيان واسلوب الحرق بالنار (العربي الجديد)

*هل يمكن توضيح طبيعة هذه الحركات الفنية؟

حركة زيرو هي حركة فنية تأسست أواخر خمسينيات القرن الماضي في مدينة دوسلدورف الألمانية على يد الفنان هاينز ماك والفنان أوتو بينني الذي وصفها بأنها "منطقة صمت" وأقامت المجموعة أول معرض لها في مدينة أنتويرب البلجيكية عام ،1975 وما زالت الحركة قائمة حتى يومنا هذا. أما حركة فلوكسس فهي أيضا حركة فنية تدمج بين الفنون المختلفة، ومنها نشأ فن الفيديو وفنون الأداء، وقد جمعت عند نشأتها في ستينيات القرن العشرين فنانين من أوروبا وأميركا واليابان. طبعا أنا لست منتمياً لأي حركة فنية، ولكن أعمالي تتقاطع مع هذه المدارس وفنانيها. لي أسلوبي وهويتي الفنية، وهي نتاج تجارب طويلة، وليست أعمالا بالنار فقط، بل تختلط فيها أساليب أخرى كاللزق والتثبيت ودهان وجفصين...إلخ. نعم النار شريكتي الراقصة، وهي عندي طاقة إيجابية، تبني ولا تهدم، لذا أستخدمها في لوحات تسلط الضوء على مواضيع مثل الحفاظ على البيئة وغضب الطبيعة وتداعيات الحرب على فلسطين. تشاهد في معرضي هذا مجموعات: الموجة، البركان، الدفق الناري، طيات الدخان والصاروخ المفقود، وهكذا كلها مرتبطة بالنار. إن واقع عالمنا اليوم هو تذكير صارخ لمخاطر النار. وفي النار جموح وعليك ترويضها. 

جان بوغوصيان امام لوحة له عرضت في الدوحة
الفنان جان بوغوصيان امام لوحة من لوحاته (العربي الجديد)

*أسستَ مؤسسة بوغوصيان (فيلا أمبان) في بلجيكا للتواصل بين الشرق والغرب، حدثني عن هذه المؤسسة وما هي فيلا أمبان؟

فيلا أمبان تعود لعائلة البارون إدوارد أمبان 1852-1929، وهو صناعي وممول بلجيكي أسس البنك الصناعي البلجيكي وعمل بإنشاء السكك الحديدية والترام والمترو ومن أعمال شركته مترو باريس، وكذلك عمل في مشاريع الكهرباء، واشتغل مع الملك البلجيكي ليوبولد الثاني، ولا سيما في المستعمرات البلجيكية ومنها الكونغو. قدم البارون أمبان إلى مصر وقرر الاستقرار فيها، وأنشأ شركة هليوبولس الجديدة التي تعني مدينة الشمس الجديدة، وهذه الشركة بنت ضاحية مصر الجديدة التي أقام فيها البارون قصره المعروف (قصر البارون) مستلهما إياه من معبد أنكور وات في كمبوديا. شُيدت هذه الفيلا عام 1934 على طراز فن الآرت ديكو بطلب من البارون لويس أمبان، ابن الصناعي البارون أمبان، واشتهرت هذه العائلة باختطاف إدوارد جان البارون الثالث في العائلة عام 1978، إذ قطع الخاطفون أصبعه قبل تحريره من خاطفيه.
شغل الفيلا مالكون مختلفون، وأدت وظائف مختلفة كمتحف للفنون، ثم تحولت إلى سفارة للاتحاد السوفييتي، ثم مقرا لتلفزيون لوكسمبورغ. اشتريت هذه الفيلا وأعدت ترميمها وجعلتها مركزا ثقافيا تحت شعار (الفن هو الحل) مستلهما مقولة المسرحي والكاتب الأرمني وليم سارويان: "دور الفن هو خلق عالم يمكن التسامح معه".

بيكاسو، جاكوميتي وبوتيرو في الدوحة

حضرت في الدوحة عدة معارض متميزة شاهدت من خلالها لوحات أصلية لفنانين عالميين ومن أهمها معرض (استوديوهات بيكاسو) عام ٢٠٢٠ ومعرض (بيكاسو وجاكوميتي) عام ٢٠١٦ ولكن المعرض الذي رسخ في ذاكرتي ووجداني كان معرض الفنان العالمي الكولومبي فرناندو بوتيرو ١٩٣٢-٢٠٢٣ حيث تأخذك الدهشة من تصويره الأشخاص بأبعاد مضخمة وبحركات وإشارات نفسية معبرة. يفضح بوتيرو انتفاخنا وبدانتنا والتي قال عنها الأديب الإيطالي ألبرتو موراڤيا: "في أجسام بوتيرو الممتلئة وأرجلها الثقيلة عوامل نفسية وليس نواحي جمالية فقط. إنها تعكس حساً مظلماً وألماً ومعاناة في هذا العالم المنتفخ".
 

من اعمال الفنان فرناندو بوتيرو التي عرضت في الدوحة ٢٠١٨
من اعمال الفنان فرناندو بوتيرو التي عرضت في الدوحة 2014

جمع ذلك المعرض الشخصي الأول لبوتيرو في منطقة الخليج العربي عام ٢٠١٤ لوحات ومنحوتات برونزية مثل سلسلته عن السيرك والأسرة والخيول والطبيعة تعكس مدرسته التي تتميز بحيوية الألوان والأشكال الحميمة والساخرة من الوجود الإنساني عامة والاستغلال والقهر خاصة، كما في لوحاته عن سجناء أبو غريب في العراق". كان من المفترض أن يحضر الفنان، ولكنه لم يفعل وبقيت كلمته في المعرض: "لطالما اعتقدت أن الفن يجب أن يساعد الإنسان على التخلص من كل قسوة الحياة ووحشيتها". 

ذات صلة

الصورة
مكتب نقابة محامي حلب 1972 (العربي الجديد)

سياسة

نتابع في الحلقة الثانية اعتقال أعضاء في نقابات سورية عام 1980 وجهود الإفراج عنهم حيث تم إطلاق سراح المحامين عام 1987 باستثناء ثلاثة منهم
الصورة
مدينة أعزاز

سياسة

اهتزت مدينة أعزاز بريف حلب، شمالي سورية، بانفجار سيّارة مفخخة ضربت السوق الرئيسي في المدينة، التي تعتبر معقل المعارضة السورية، منتصف ليلة أمس السبت
الصورة
غسان النجار أمين سر نقابة المهندسين في حلب 1980 متحدثا للعربي الجديد (العربي الجديد)

سياسة

واجه نظام الرئيس حافظ الاسد عام 1980 انتفاضة شعبية في مدينة حلب سبقها صراع مسلح مع الطليعة المقاتلة واستغل النظام هذا الصراع للقضاء على اخر صوت للحرية في البلاد
الصورة

سياسة

يستمرّ نزوح الأرمن الجماعي من جيب ناغورنو كاراباخ، اليوم الجمعة، غداة الإعلان عن حلّ الجمهورية الانفصالية المعلنة من جانب واحد، على الرغم من دعوات أذربيجان لهم للبقاء.
المساهمون