افتُتحت الدورة الـ57 (30 يونيو/ حزيران ـ 8 يوليو/ تموز 2023) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" بالدراما التاريخية "الجمرة"، للبرازيلي الجزائري كريم عينوز (1966)، تمثيل أليسيا فيكاندر في دور الملكة كاترين بار، وجاد لو في دور الملك هنري الـ8. اقتباسٌ عن رواية "مناورة الملكة" (2012) للروائية البريطانية إليزابيث فريمانتل، والسيناريو والحوار لهنريتا وجيسيكا أشوورت.
فقرات الافتتاح لم تتجاوز الساعة الواحدة، كالعادة. بدأت بفقرة استعراضية سريعة، لا جديد فيها أو مفيد، باستثناء الرقص على الثلج فوق خشبة المسرح. ثم استعراض أفلام، وتقديم لجنتي تحكيم المسابقتين الرئيستين "الكرة البلورية" و"بروكسيما". بعدها، مُنحت "جائزة رئيس المهرجان الشرفية" للممثلة السويدية أليسيا فيكاندر (34 عاماً)، التي شكرت المهرجان بكلمات مختصرة، مُعبّرة فيها عن سعادتها، وذاكرةً أنّ تجربتها التمثيلية الأولى كانت في دولة تشيكيا.
بعد ذلك، صعد إلى المسرح الممثل النيوزيلاندي راسل كرو (59 عاماً) لاستلام "جائزة الكرة البلورية التكريمية"، تقديراً لمسيرته السينمائية. بدوره، شَكَر كرو المهرجان، وأعرب عن دهشته بدقّة المهرجان وتنظيمه وجماله، مقارنة بمهرجانات أخرى كثيرة حضرها في مسيرته الفنية الطويلة. وذَكّر الجمهور بحضور الحفلة الغنائية الخاصة به وبفرقته أمام فندق "تيرمال"، المقرّ الأساسي للمهرجان. يُذكَر أنّ كرو كان مُرشّح عينوز لتأدية الدور الأول مع فيكاندر، بدلاً من جود لو، لكنْ لم يحصل المُخطَّط له.
تدور أحداث "جمرة" في إنكلترا، في الفترة الأخيرة من حكم الملك هنري الـ8، لكنّ الفيلم ليس عن شخصيته كملك حاكم، بل عن الملكة كاترين بار، الزوجة الـ6 والأخيرة للملك الطاغية، المُصاب بالسُمنة وجنون العظمة الرهيب، من بين أمراضٍ كثيرة، عضوية ونفسية وأخلاقية. بذلت الملكة كلّ ما في وسعها للدفع باتجاه مستقبل جديد للبلد، قائمٍ على معتقداتها البروتستانتية الراديكالية. لكنْ، عندما عاد الملك المُعتلّ بشدة من رحلته الطويلة إلى الخارج، وبوازع من دسائس رجال البلاط والكهنة ومكائدهم، يصبّ غضبه على هؤلاء "المتطرّفين"، ويقمع كلّ محاولاتهم البروتستانتية. ثم يتّهم صديقة طفولة كاترين، آن أسكو (إيرين دوهيرتي) بالخيانة والهرطقة، ويأمر بتعذيبها وحرقها. قتل النساء لم يكن غريباً عليه، إذْ أعدم اثنتين من زوجاته السابقات، رغم حبّه لهنّ، وإنجابه منهنّ.
بعد ذلك، تحوم الشبهات حول الملكة نفسها، إذْ تنتاب الملك هواجس جنونية بشأنها، رغم عشقه لها، بعد أنْ أخبرته بحملها. يشكّ في الحمل بقوّة. تدريجياً، تجد كاثرين نفسها تقاتل، ليس فقط من أجل حقوقها، بل للبقاء على قيد الحياة. بعد إحكام الخناق حولها، وسجنها، تفلت في النهاية بمعجزة، بعد دفاعها عن نفسها ضد عنفوان وحش (الملك نفسه) يُحبّها، وجبروته وسطوته، ويحبسها في قلعته. لم يحصل لها هذا لولا إيمانها الراسخ بما تفعله، وأيضاً استماعها إلى نصائح وإيضاحات محورية عن الحالة الحرجة للملك، همس بها طبيبه الخاص، الفارابي (عمرو واكد)، المُشرف على علاج ساقه المعطوبة ومداواتها. نصائح وإيضاحات كانت حاسمة في قرارها، وتسلّحها بالقوّة والصبر والعزيمة، والمضي في تنفيذ ما عزمت عليه.
هذه المرأة الجريئة والقوية والمُتعلّمة والمُنفتحة، والحريصة على حبّ أبناء زوجها هنري ورعايتهم والاعتناء بهم، والكاتبة التقدمية، صاحبة أول عمل أصلي ينشر بتوقيع امرأة في تاريخ إنكلترا؛ يمكن القول عنها إنّها أنقذت البلد من مستقبل مظلم. والفيلم، إجمالاً، وإنْ بدا تاريخياً شكلاً وموضوعاً، شهادة عصرية عن مدى قوّة المرأة وصلابتها المرأة، وصرخة ضد التسلّط والفاشية والاستبداد والرجعية.
"الجمرة" أوّل روائي طويل تاريخي وناطق باللغة الإنكليزية لكريم عينوز. رغم ذلك، متماسك وقوي وفنيّ ومُقنع. المُثير للانتباه أنّه يأتي بعد آخر دراما روائية اجتماعية أنجزها باللغة البرتغالية، "حياة غير مرئية" (2019)، الفائز بجائزة "نظرة ما" في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/أيار 2019) لمهرجان "كانّ"، بعد فيلمين وثائقيين مهمّين ومؤثّرين، ناطقين باللغة الفرنسية: "نرجس" (2020) و"مَلَّاح الجبال" (2021)، اللذين كشفا مدى ارتباط المخرج ببلده الأم الجزائر، واللذين يتقاطعان، خاصة الثاني، مع سيرته الذاتية وماضيه وذكرياته عن بلده. من هنا، تبرز المُجازفة الشكلية في "الجمرة" كموضوع، إذْ تُقدَّم دراما تاريخية مهمّة من القرن الـ16، عن أحد أشهر ملوك إنكلترا وملكاتها؛ وباختياره اللغة الإنكليزية، وبالفنيّات: مثلاً، إسناد دور الملكة إلى ممثلة سويدية. لكنْ، في عمقه، لا يحيد "الجمرة" كثيراً عن طرحه مواضيع تتناول التجربة الذاتية والاستبدادين الاجتماعي والسياسي وقوّة المرأة. إنّها الطروحات نفسها في أفلامه السابقة.
لكنّ "الجمرة" يطرح سؤالاً: لو نفّذه مخرج آخر، إنكليزي أو غير إنكليزي، عنده موهبة، ومتمكّن، يمتلك أدواته السينمائية، هل ستختلف النتيجة ستختلف كثيراً؟ لا يعني السؤال أنّ بصمة كريم عينوز ليست جلية أو ملموسة، لكنّها في الوقت نفسه ليست حاضرة أو مُعبّرة عن نفسها. إذْ يبدو واضحاً من مراجعة أسماء فريق العمل، ومن عدم مشاركة عينوز في كتابة السيناريو، على غير المعتاد، ومن تصميم الملابس، للمبدع الإنكليزي المعروف مايكل أوكونور، الفائز بـ"أوسكار" الهوليوودية و"بافتا" البريطانية في فئة أفضل أزياء عن "الدوقة" (2009) لسول ديبّ، أنّ دوره عينوز مقتصّرٌ على تنفيذ الفيلم، وربما اختيار ممثلي الأدوار الأولى. أكان الأمر كذلك فعلاً؟
الفيلم يطرح هذا، وإنْ كان ما بدا عليه، إجمالاً، لا يُعيب المخرج، أو يقلّل من شأنه، ومن مغامرته الجديدة، الممتعة واللافتة للانتباه بصرياً، خاصة بالنسبة إلى الديكور والملابس والمناظر.