أحدثت تصريحات المخرج المصري الكبير داود عبد السيد عن قرار اعتزاله الإخراج والفن، الكثير من الصدمة والإحباط والغضب في الأوساط النخبوية، وتحديداً بين السينمائيين الذين أحسوا بمرارة تجاه المحبطات والمنغصات التي باتت حجراً أسود ثقيلاً يجثم على أنفاس السينما.
تلك المحبطات، بالطبع، أدت إلى اعتزال مخرج مهم كداود عبد السيد. لعلنا نذكر تلك الدعابة المريرة التي أطلقها المخرج يسري نصر الله في وقت ليس ببعيد، وهي إعلانه على صفحته على "فيسبوك" أنه يبحث عن عمل آخر غير الإخراج، وأن قدراته وخبراته في الطبخ حاضرة لمن يريد أن يسند إليه مهنة طباخ. ولعلنا نذكر أيضاً المخرج خيري بشارة عندما عمل لوقت محدود سائق تاكسي.
كل هذه الأمثلة السوداء التي توَّجها اعتزال داود عبد السيد أثارت الكثير من الحزن والحسرة لما آلت إليه صناعة كانت أرباحها تشكل أعلى دخل لمصر بعد أرباح القطن. لعل الاعتزال المشروط الذي وضعه داود عبد السيد كان بمثابة "روشتة" لإصلاح ما بقي من صناعة عظيمة كانت ملء السمع والبصر.
من ضمن شروط عبد السيد للعودة: خفض تذكرة دور العرض السينمائي بما يتناسب مع قدرة الطبقة الوسطى. وقف الاحتكار لشركات إنتاج معينة وإطلاق يد المنتجين المستقلين كي ينطلقوا برؤاهم غير المقيدة، حتى لا تكون على رؤى شركات الإنتاج.
كان داود عبد السيد محقاً في كل شروطه، التي هي بحق أحد المفاتيح لحل أزمة صناعة السينما المصرية وإنعاشها وإعطائها قبلة الحياة، لتعود كما كانت، سينما فتية شابة منطلقة جريئة طموحة في شكلها ومحتواها تبشر بالأمل والحرية، وتساعد الإنسان في البحث عن حياة تقف ضد جحافل القبح والظلام واليأس والسواد التي كانت سبباً مباشراً في تدهور حال السينما وتغيير ماهيتها وجوهرها، لتصبح مجرد أفلام فيها قدر من الإسكتشات غير المترابطة، التي تثير الغثيان والإشفاق. هذا ما سُمي السينما النظيفة، في إدانة واضحة لتاريخ السينما الذي قدم لنا روائع لا تُنسى، في محاولة خبيثة لغسل الأدمغة من كل ذوق رفيع راقٍ، ليحل محلها كل ما هو فجّ وغثّ.
إن طغيان "السينما النظيفة" ودعمها وتعويمها مخطط له لتصبح السينما المصرية العظيمة التي تربينا على تراثها رمزاً للفجور والفسق والانحلال، أو "غير نظيفة"، وعلينا بذلك أن نقتنع بما يقدم من تلك الإسكتشات الرخيصة، تحت مسمى سينما، والسينما منها براء.
قلبي مع داود عبد السيد ومع رجالات السينما الحقيقيين الذين يتطلعون إلى مستقبل أفضل لصناعة كانت الرائدة في العالم العربي، وأحد أهم عناصر القوة الناعمة لمصر، في معركتها التي لم ولن تنتهي، ضد الرجعية والتخلف والقبح.