احتجاجات فرنسا: الرئيس وحيداً في لعبة فيديو

04 يوليو 2023
والدة الشاب نائل المرزوقي الذي قتلته الشرطة (ألان جوكار/فرانس برس)
+ الخط -

في فرنسا، وبعد مقتل الشاب نائل المرزوقي برصاص أطلقه شرطي صباح الثلاثاء الفائت، اندلعت احتجاجات وأعمال شغب في معظم المدن. مواجهات مع الشرطة، إحراق وتكسير محلات تجارية ومكتبات عامة ومراكز بلدية. خرجت الأمور عن السيطرة، وتوالت التصريحات السياسية والأمنية. صباح كل ليلة مواجهات، يخرج وزير الداخلية الفرنسي للتصريح عن أعداد الموقوفين، ولكن أيضاً، وبشكل أساسي، للإشارة إلى أعمار جزء كبير من الموقوفين: فتية صغار. كثيرٌ من الشباب المراهقين وأطفال لم يتجاوزوا الـ13 من أعمارهم.

بدوره، صرح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قبل أيام، بأنّ من تمّ توقيفهم "ثلثهم شباب، وأحياناً فتية صغار جداً". ودعا الأهل إلى تحمّل مسؤولياتهم تجاه أولادهم، وحمّل مسؤولية جزء ممّا يحصل لوسائل التواصل الاجتماعي وألعاب الفيديو: "لقد رأينا على العديد من المنصات، مثل تيك توك وسناب شات وغيرهما، كيفّ يتمّ تنظيم التجمعات العنيفة، وكذلك رأينا شكلاً من أشكال محاكاة العنف. وهذا ما يؤدي، عند الأصغر سنّاً، إلى الخروج من الواقع، ولدينا انطباع بأن بعضهم يطبق في الشارع ما يعيشه في ألعاب الفيديو التي سمّمتهم".

هذا الربط بين العنف/الغضب في الشارع وألعاب الفيديو، يبدو محاولة تفسير سريعة وسهلة لظاهرة أو مشكلة اجتماعية أكثر تعقيداً من مجرّد شباب أدمنوا ألعاب الفيديو. لكنها ليست المرة الأولى التي يقوم فيها سياسيّ بالإشارة إلى علاقة سببيّة ما بين العنف وألعاب الفيديو. تطول اللائحة، وتمتدّ زمنيّاً وجغرافياً، فهل هذا الربط واقعي؟ وكيف ساهم الإعلام في تعزيز هذه النظريّة؟

هي لازمة تكرّرت على لسان أكثر من مسؤول حول العالم، مع كل حدث ذي حساسية أمنية يحتاج تعاملاً جديّاً وجذريّاً: "حماية أطفالنا من الأسلحة النارية مهم، ولكنها مجرّد خطوة أولى. صناعة الإعلام والترفيه لديها سلطة هائلة على حياة أطفالنا، لذا يجب عليهم تحمّل مسؤوليتهم". هذا ما صرّح به الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، عام 1999، بعد مجزرة ثانوية كولومباين الأميركية، التي راح ضحيتها 13 شخصاً. أما الرئيس السابق أيضاً دونالد ترامب، فقال عام 2019، بعد عمليات إطلاق نار جماعية في ولاية أوهايو الأميركية خلال أقلّ من 24 ساعة: "يجب أن نوقف تمجيد العنف في مجتمعنا، وهذا يشمل ألعاب الفيديو البشعة والمميتة التي أصبحت مألوفة الآن، فمن السهل للغاية أن يحيط الشباب المضطرب أنفسهم بالثقافة التي تحتفي بالعنف...". 

لازمة سهلة ما من دراسة علميّة واحدة قادرة على مساندتها. يعود جزءٌ من هذا الهرب السياسي إلى ألعاب الفيديو، لتحميلها مسؤولية أي تدهور أمني أو تزايد للعنف في المجتمع، إلى الإدراك التامّ بالمساحة المتزايدة التي تحتلّها هذه الممارسة بين الفئات الشابة. في أرقام عام 2022، أجرتها ونشرتها شركة أبحاث استراتيجية متخصصة في ألعاب الفيديو، يصل عدد اللاعبين حول العالم إلى 3,2 مليارات فرد، وهذا ما يُمثّل أكثر من 40 في المائة من سكان العالم. تحتلّ فرنسا المركز الـ28 بين دول العالم من حيث عدد اللاعبين عبر الإنترنت. عام 2020، كان "استثنائيّاً" بالنسبة لسوق ألعاب الفيديو في فرنسا، بحيث وصلت أرباح هذه الصناعة إلى 5,6 مليارات يورو. وهذا رقم يُمكن للحجر الصحي بسهولة أن يُفسّره، فعالم ألعاب الفيديو تقدّم بأشواط على عوالم أخرى مثل السينما والموسيقى خلال فترة الوباء. وحسب دراسة أجرتها نقابة ناشري الألعاب الترفيهية الفرنسية SELL، عام 2022، تبيّن أن أعداد لاعبي ألعاب الفيديو عبر الإنترنت في فرنسا يصل إلى 37,4 مليون لاعب، 88 في المائة منهم تتراوح أعمارهم ما بين 18 سنة وما فوق (32,8 مليونا)، و12 في المائة هم من الأطفال من عمر 10 إلى 17 سنة (4,6 ملايين). 

تُفسّر هذه الأرقام اللجوء السياسي إلى عالم ألعاب الفيديو لجذب الناخبين. عالم تتمّ الاستفادة منه عندما تدعو الحاجة، وتحميله مسؤولية السوء عندما تدعو الحاجة أيضاً، وربما هذا ما أدّى إلى موجة غضب بين اللاعبين في فرنسا بعد تصريحات ماكرون الأخيرة. عام 2022، وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية، أعلن فريق ماكرون الرئاسي عن خوض الأخير المعركة الانتخابية في "ماينكرافت"، وهي واحدة من أشهر ألعاب الفيديو حول العالم. سعى هذا الدخول إلى عالم الترفيه الافتراضي إلى تحفيز الناخبين من عمر 18 إلى 34 عاماً للمشاركة في التصويت.

وفي وقت سابق، وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية، تمّ إدخال شخصية دونالد ترامب في بعض ألعاب الفيديو، وتمّت حمايته من عملية اغتيال في لعبة "غراند ثيفت أوتو". بينما لجأت نائبة أميركية إلى منصة تويتش، ومارست لعبة "أمونغ أس" أمام 430 ألف مشاهد، وشجّعت على التصويت وقدّمت رسائل سياسية واضحة. 

هذه النظريّة التي تربط ما بين العنف وألعاب الفيديو، والتي لم تشكّل إلى الآن أية دراسة علميّة رافعةً لها، كان للإعلام مساهمته في خلقها وتعزيز حضورها. في ورقة بحثية بعنوان "التغطية الإعلامية لقضايا العنف والإدمان على ألعاب الفيديو"، لصانع الألعاب والباحث المتخصّص في العلوم السياسية لتحليل خطاب وأيديولوجيا الألعاب، أوليفيه موكو، يُشير إلى مساهمة الإعلام غير المتخصّص في تعزيز الرابط غير الحقيقي ما بين العنف وألعاب الفيديو. يُشير موكو إلى مجزرة عام 1999 في الولايات المتحدة الأميركية، وكيف أنها مثّلت نقطة تحول جذرية في أشكال التغطية الإعلامية لألعاب الفيديو، وذلك عبر معالجتها ضمن تبويب الإشكاليات المجتمعيّة.

بدأت ملامح هذه التغطية الإعلامية بالظهور مع إعلان التحقيقات الفيدرالية الأميركية عمّا عثرت عليه في منزل أحد الطلاب القتلة، وهي مجموعة منتجات ثقافية (موسيقى وأفلام سينمائية) ضمنها ألعاب فيديو، وكذلك إيجاد أثر استخدام لموقع إلكتروني يقترح إجراء تعديلات على الألعاب.

وما بين محاولات تحليل أسباب هذه الجريمة وأدواتها، يشير موكو في تحليله إلى أنّ عيون الصحافة تركّزت على العوامل المُسبّبة لهذا العنف. يرصد موكو صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، وذلك بين تاريخي 20 (يوم حصول الجريمة) و27 إبريل/ نيسان، ليتوصّل إلى أنها نشرت 16 مقالاً يتناول بشكل واضح وصريح مسؤولية ألعاب الفيديو عن هذه الجريمة. 16 مقالاً خلال أسبوع واحد، جميعها تصبّ خلاصتها في تأثير ألعاب الفيديو ودفعها إلى العنف وعالم الجريمة. مقالات تمّ توزيعها ونشرها في أكثر من تبويب في الصحيفة، من التربية إلى التكنولوجيا والصحة وصفحات الرأي...

في ذلك الوقت، وبعد خطاب الرئيس الأميركي بيل كلينتون، الذي أشار فيه إلى مسؤولية عالم الترفيه، أطلقت الحكومة الفيدرالية برنامجاً دراسياً حول العنف عند الشباب. نُشرت نتائج الدراسة عام 2001، وهي لم تخلص إلى وجود صلة مباشرة بين العنف وألعاب الفيديو "نظراً لقلة الدراسات العلمية حول الموضوع". تكمن المشكلة برأي موكو، في تركيز الصحافيين على تحليل عالم ألعاب الفيديو من دون أي محاولة جديّة لوصفه أو قراءته كما هو في أرض الواقع، كظاهرة مجتمعيّة جديدة. انحصر اهتمام الإعلام بألعاب الفيديو في وقت الأزمات، أو عند الحديث عنه كنوع من أنواع الإدمان، من دون نقاش لهذه الثقافة المُستجدّة. وهذا ما ساهم في خلق فجوة ما بين الواقع والتصوّرات عن عالم مجهول للخارجين عنه، بشكل سمح بالاستغلال السياسي لظاهرة يكاد لا يتعدّى عمرها سنوات قليلة.

المساهمون