تصدّرت أيمي واينهاوس عناوين الصحف البريطانية خلال حياتها القصيرة، التي انتهت بشكل مأساوي في عام 2011. اليوم، وبعد عشر سنوات على رحيلها، ما زالت واينهاوس لغزاً كبيراً، ومثار جدل في أوساط الفن والصحافة، التي ركزت على حياتها الشخصية إلى حد كبير، خصوصاً علاقتها المضطربة مع زوجها بليك فيلدر سيفيل، وعلاقتها المتوترة مع والدها، إلى جانب إدمانها الشرس على الكحول والمخدرات.
شهرتها العالمية، ووقوفها بين فناني الصف الأول في بريطانيا، خصوصاً بعد فوز أغنيتها back to black بخمس جوائز أكاديمية، لم يمنعاها من ممارسة سلوكها الجامح والحاد؛ فحفلاتها غير المكتملة، أو الملغاة بشكل مفاجئ، واستمرار سلوكها التدميري الذاتي، وصولاً إلى وفاتها المبكرة بسبب الكحول، شكلت لعام كامل، وفق كتاب "مسألة موسيقية عن الحياة والموت"، عشرة في المائة من إجمالي المحتوى المنشور على موقع "تويتر".
حتى بعد رحيلها، لم تنجُ أيمي من ماكينة صناعة "صورة النجم"، إذ تغص السنوات العشر الماضية بمحاولات كثيرة لـ "تلميع" صورة واينهاوس، وقلب الرأي السائد حولها؛ إذ سُوّق للفنانة الراحلة على أنّها "الفتاة الصغيرة الهشة" ضحية الذكورية القمعية، وأحداث الطفولة التي أنهت حياتها في آخر الأمر، وبشكل غير مباشر.
تمت إعادة إنتاج شخصية واينهاوس مرات عدّة، بوصفها "البطلة الإيجابية" التي تستحق "تبريء العامة" لها، عبر مجموعة من الأفلام الوثائقية، ولقطات الفيديو الشخصية، والمقابلات المسجلة والصوتية، والسير التي تروي قصة "ثالثة" عن حياة واينهاوس، وصولاً إلى وثائقي يتم إنتاجه الآن، على أن يصدر قريباً، بمناسبة مرور عقد على رحيلها، يُروَّج له على أنّه "يحكي ما لم يُحكَ سابقاً" عن حياة المغنية البريطانية.
في إطار صناعة الضحية هذا، تتشكل نسخة "مزيفة" عن أيمي، تروي حكاية ملمعة ومغسولة، تضع كلّ ممارساتها في سياق "رد الفعل". فيصف الفيلم الوثائقي للمخرج آسيف كاباديا، الذي يحمل عنوان "أيمي"، الفنانة الشابة على أنّها فتاة حساسة، أفشلها غياب والدها، وأجبرتها طراوة والدتها على "التشبه بالرجال"؛ أغرقتها الكآبة منذ مراهقتها، ودفعتها إلى البحث الدائم عن الحب بسذاجة وسطحية؛ فيظهر في الفيلم والدها ميشيل واينهاوس ومدير أعمالها راي كوزبيرت وهما يجبرانها على العمل رغم مرضها الشديد، أما زوجها بليك، فيهجرها حال وقوعها في حبه، ويعود إليها بعد تحقيق شهرتها، موقعاً إياها خلسة في فخ المخدرات؛ الأمر الذي سيؤدي لاحقاً إلى إدمانها المرضي.
لم تعد أيمي "حطام قطار" أو "إعصار" كما وُصفت في الصحف البريطانية أثناء حياتها، بل باتت مجرد شابة ضعيفة قابلة للعطب. وخلافاً للصورة التي قدمتها عن نفسها طوال سنوات حياتها، بوصفها رمزاً لتحطيم الصورة الأنثوية النمطية، الشابة غير المبالية بأحكام المجتمع، والساخرة من إعلام الشو بيز، باتت أيمي المرأة الضعيفة المضطربة، وما سلوكياتها الاجتماعية المختلفة إلّا وسيلة للتكيف مع شهرة كادت تبتلعها.
يشير كلّ من بيركيرز وإيكلير، في مقال لهما، إلى أنّ تلك المحاولات لتطهير شخصية أيمي، ليست إلّا تعزيزاً لأيديولوجيات "الأنوثة المستكينة" و"التبعية البنيوية"، والفكرة القائلة بأنّ نمط الحياة النشط والمجازف المرتبط بالروك آند رول لا يصلح للنساء، وقد يؤدي في كثير من الأحيان إلى هلاكهن.
الفنانة التي لم تعتذر في أيّ مناسبة عن جرأتها المفرطة، ولا سعت في يوم إلى تبرير نمط حياتها الذي قد يبدو فاحشاً بالنسبة للبعض، أدلت أخيراً باعتذارها للمجتمع، إلّا أنّه اعتذار قصري، وردّ على ألسنة من حولها، من دون أدنى رغبة منها.
لم يقتصر الأمر على تحليل سلوكيات واينهاوس وخياراتها الحياتية وحسب، بل سعت الشاشة الكبرى إلى دراسة أعمال الراحلة الموسيقية على ضوء حياتها الشخصية أيضًا؛ فوظف فيلم pape كلمات أغاني الفنانة الشابة لدعم سردية مبتذلة عن الفتاة المرهفة التي تخنقها أيدي من هم حولها، خصوصاً الرجال، بينما تقف متفرجة بلا حول ولا قوة، ويشير عبر مشاهد عدة إلى علاقة أغنية stronger than me، بتجربتها العاطفية الأولى، وأغنية What is it about Men? بهجران والدها لأمها.
هكذا، وعلى مدى سنوات عديدة، رُوّج لأغاني واينهاوس على أنّها "صرخة استغاثة" وليست تمرداً واعياً على السيطرة المؤسساتية الأبوية. وفي حين تم التشديد على تلك الصلات المحتملة بين أغاني واينهاوس وتجاربها الشخصية، لم يتم الإشارة، وإن لمرة واحدة عبر تلك الأفلام، إلى الجانب الفني في موسيقاها؛ إذ عرفت واينهاوس بقدرتها الكتابية الهائلة، بأسلوبها الارتجالي، وتوفيقها بين اللحن والكلمة المنطوقة، وأدائها المتقن؛ سواء في الاستديو أو على خشبة المسرح، فغناء أيمي الصلب، ومزجها المدروس بين الأنواع الموسيقية المتضاربة، مثل السول والبلوز والجاز والروك، وصوتها الكونتر آلتو الفريد، وضعها في قائمة VH1 لأعظم 100 امرأة في تاريخ الموسيقى، وجعلها صاحبة الألبوم الأكثر مبيعًا في المملكة المتحدة في القرن الحادي والعشرين، فضلاً عن كونها أول امرأة بريطانية تفوز بخمس جوائز غرامي، والحائزة على الرقم القياسي لأكبر عدد من الجوائز التي قد تحققها فنانة في ليلة واحدة.
من المؤكد أنّ المرأة التي تقف خلف هذه الإنجازات، ليست هي نفسها المرأة الهشة المنقادة، وإن كانت قد اتخذت بعض الخيارات السيئة التي أودت بحياتها، وهو أمر لا نستطيع إنكاره، إلّا أنّها كانت صاحبة قرارها، تماماً كما تخبرنا في أغنيتها rehab: "يجبرونني على الذهاب إلى مصحة التأهيل، لكنّني أقول: لا لا لا". غيبت ممارسات الإعلام ومعه نتاجات الشاشة الكبرى والسير الذاتية هذه الـ "لا" الواضحة والحدة في خطاب واينهاوس، واضعة الجماهير أمام نسختين من أيمي؛ فهناك المرأة التي احتضنت شياطينها الشخصية، غير مبالية بأحكام الآخرين، الشابة المتمردة بحق، والأخرى هي تلك المسخ عن الحقيقة، خيال رفيع، بالكاد يمكنك رؤيته لشدّة وهنه.
لا شك أنّ حياة واينهاوس تشكل عنصر جذب كبير، وأنّ حياتها الغريبة، لا يمكن أن تُفصل عن سياق أعمالها الفنية، فضلاً عن شكلها المثير للاهتمام: وشومها الكثيرة، تسريحة شعرها الهرمية، ومحدد عينيها الحاد والعريض، وأسلوب لباسها المستوحى من الطبقة العاملة في ستينيات الولايات المتحدة، ولغة أغانيها "السوقية"، وموقفها من السلطة.
إلّا أنّنا نبتعد عن الحقيقة كثيراً إذا ما نسبنا ذلك الاختلاف إلى أيّ سبب آخر عدا عن كونها أيمي واينهاس؛ الموسيقية الموهوبة والشابة ذات الصوت المعتق والأفظع من أن يُصدق.