إليزا هيتمان:تلافي المتوقّع والابتعاد عن خطاب نسوي فجّ

08 ديسمبر 2020
هيتمان مع الجائزة الكبرى للجنة تحكيم الـ"برليناله 2020" (توماس نيدرميولر/Getty)
+ الخط -

يتميّز "أبداً نادراً أحياناً دائماً"، ثالث روائيّ طويل للأميركية إليزا هيتّمان (41 عاماً)، بحيوية أعمالٍ تتموقع في الحدّ الفاصل بين أنواع ونبرات: "فيلم تعلّم" (كامين أوف آيج)، ودراما نسائية بالغة، وتأمّل، وحكاية اجتماعية، والتزام قضية إنسانية، والفيلم أنتربولوجيّ الطابع عن تفاوت العيش بين مدينة صغيرة شبه قروية في ولاية بنسِلْفانيا، وحاضرة نيويورك الموحشة.

تبدأ الأحداث في صالة موسيقى. فيها، تؤدّي الفتاة الخجولة أوتَم (17 عاماً) أغنيةً، بشكل يفصح عن موهبة متواضعة، وهشاشة نفسية واضحة. سريعاً، يُكتَشف منبعها، مع متابعة المشهد التالي: تتعرّض لإهانة مبطّنة من زوج والدتها على طاولة العشاء في مطعم. بعد لحظات، تتعرّض لمضايقات ذات فحوى جنسي من شاب من عمرها، في تعبيرٍ عن ضعف تقدير بطريركي، هو سمة الريف الأميركي المحافظ.

المشاهد الأولى تقول كلّ شيء، تقريباً. هذه إحدى علامات الأفلام الجيّدة. فيها، تُستوَعب الحالة النفسية لأوتَم، ومرجع عدم قدرتها على مصارحة أقاربها بالآتي. وحدة عميقة تلفّ يوميات المراهقة، تبرع هيتّمان في تشييدها ببطء، عبر لقطات متابعة مشي أوتَم في الشوارع المقفرة والباردة، وانزوائها كضيفة في ركن من صالون المنزل العائلي، أمام شاشة تلفاز بائس مع زجاجة جعة في اليد، ثمّ خنوعها التّام في المتجر الممتاز، حيث تشغل وظيفة أمينة صندوق، وتتعرّض تكراراً ـ رفقة سكايلَر، ابنة خالتها وزميلتها في العمل ـ لتحرّش رئيسهما.

انطوائية أوتَم وتمترسها خلف نظرات حادّة، يؤطّرها حاجبان كثيفان ومنعقدان دائماً، وصمتها المطبق الذي لا تشقّه إلا إجابات مقتضبة وشبه فضّة على أسئلة محيطها، هما حقيقةً ردّ فعل دفاعي، يُخفي غرابة دفينة، وصراعاً داخلياً لا يلبث أن يخرج إلى الوجود حين تكتشف وقوعها في حمل مفاجئ (جنين في أسبوعه العاشر) من علاقةٍ، يُصرّ السيناريو (إليزا هيتّمان)، وفق ضربة معلّمة، على إبقائه خارج الحكاية، حتّى مشهد الذروة. منذ تلك اللحظة، يتبدّى اختيار مهم آخر، كان حاسماً في منح الفيلم لمسة صدق وقوة: أسلوب واقعي يكاد يلامس اتّجاه سينما الحقيقة، تُتَابع وفْقَه العملية الطبية (ومحاولات إسقاط الجنين عشوائياً) في زمنها الحقيقي، وبتفاصيلها، ما يُكسبها صبغة تجارب، ربما تكون مفرطة في قسوتها، لكنّها ضرورية لمنح المُشاهد شعور الأم العزباء، الممزّقة بين مهانة ووحدة وخوف من المجهول.

لعلّ هذا ما يُقصد به، عادةً، عند تناول الحساسية الأنثوية في إخراج الأفلام، أو نوع الشعور الذي لا يمكن إلا لامرأة مخرجة أنْ تلتقطه، عندما يتعلّق الأمر بشخصية أنثوية، وبكيف يُصبح مصيرها وصحّتها شأناً تتقاذفه القوانين والأحكام والتقاليد، بشكل يُسائل سطوة المجتمع على الجسد الأنثوي. تتبلور هذه الإشكالية بشكل أعمق عندما تُضاف تعقيدات أخلاقية على حسابات أوتَم، فتضطرّ إلى سفرٍ مُضنٍ ومُكلف مع سكايلَر، في حافلة تقلّهما إلى نيويورك، لإجراء عملية إجهاض لا تسمح بها قوانين ولاية بنسِلْفانيا لمن لم تبلغ 18 عاماً، إلا بموافقة الوالدين.

هذا منعطفٌ، يتحوّل الفيلم بعده إلى سلسلة آلام تجتازها الشخصية الرئيسية، تتسبّب فيها صعوبة العمليّة من جهة، وقلّة ذات اليد ونقص خبرة الفتاتين المؤثّر من جهة أخرى، خصوصاً حين يصبح لقاؤهما العابر بجاسبر ـ الشاب الميسور من عمرهما، وتمثيل سكايلَر دور المغرمة به رغماً عنها ـ سبيلهما الوحيد إلى الحصول على دولارات ضرورية لشراء تذكرة العودة إلى مسقط رأسيهما. تَخبّطُ الفتاتين في فهم تعقيد شبكة مواصلات المدينة العملاقة، وعيونهما المتّسعة أمام حيوية العيش فيها، وشوارعها العامرة، ولعبهما الصّبياني البريء والساذج بين فينة وأخرى، وبراعة إليزا هيتّمان في منح "أبداً نادراً أحياناً دائماً" طقساً رمادياً، يتحوّل أحياناً إلى أمطار غزيرة... هذه عوامل تُعضِّد انغماس المُشاهد في جوّ من الكآبة، يبلغ أوجه في مشهد مفصلي (يعطي للفيلم عنوانه)، يجمع أوتَم بأخصائية اجتماعية، تطرح عليها أسئلة لملء استمارة دقيقة ومُفصّلة عن ظروف الحمل ودوافع الإجهاض، قبل أن يتطوّر إلى أسئلة عن العلاقات العاطفية، يتعيّن على أوتَم الإجابة عليها بالاختيار بين "أبداً" و"نادراً" و"أحياناً" و"دائماً". بالإضافة إلى طابعه المؤثّر، مُثيراً بعض الدَمْع، تتأتّى مفصلية المشهد من الإسهال اللغوي، المتمثّل في غزارة الأسئلة ودقّتها.

سينما ودراما
التحديثات الحية

هذا يتعارض مع اقتصاد الفيلم في الكلام، فيتجلّى فجأة وبشكل غامر للعواطف حجم المسكوت عنه في وجود هذه المراهقة، وفي المسكوت عنه سرّ صادم وثقيل، تضافرت عوامل تربيتها التقليدية وهوانها على عائلتها وضغط الوسط المحافظ على دفعها إلى كتمانه، من دون تناسي أداء سيدني فلانيغان (أوتَم)، المُذهل باقتصاده ودقّته، في دورها السينمائيّ الأول.

هذا يوضّح كمْ أنّ الصعوبات التي تواجهها الفتيات تظلّ نفسها في العمق، حتى في مجتمعات يُفترض بها أنْ تكون قد قطعت أشواطاً مهمّة في كسر التابوهات المتعلّقة بجسد المرأة والحقوق الفردية. هذا يحيل إلى نقاط تشابه عدّة بين فيلم إليزا هيتّمان و"ملاك" (2012) لعبد السلام الكلاعي، عن تجربة الحَمَل غير الإراديّ للفتيات، خارج الزواج، في المغرب.

ينجح "أبداً نادراً أحياناً دائماً" في امتحانٍ مزدوج، فيتلافى السيناريو المتوقّع، وفخّ الخطاب النسوي الأوّلي، بتجنّبه شيطنة جاسبر بشكل فجّ، من دون أن ينزع عنه صفة الذكر الذي لا يتوانى عن استغلال حاجة الأنثى لإشباع شهوته.

المساهمون