منذ أكثر من عقدين، يصنع الذكاء الاصطناعي تحولات كبرى في مختلف القطاعات: من التعليم، والرعاية الصحية، إلى النقل العام، والأعمال التجارية، والترفيه، والحرب، وغيرها. لذلك تحوّل هذا القطاع إلى حلبة تنافس رئيسية بين دول العالم.
لكن أين يقف العالم العربي في هذا السباق؟
تعيش الدول العربية ظروفاً داخلية متباينة، تنعكس بوضوح على خططها في تبني الذكاء الاصطناعي في خطابها واستراتيجياتها ومؤسساتها. وقد سارعت دول عربية، خصوصاً في الخليج، إلى تبني أحدث التقنيات والمؤسسات والمعايير والخطط لتوطين الذكاء الاصصناعي واستخدامه، وهو ما انعكس إيجاباً على ترتيبها في المؤشرات العالمية. في المقابل، لا تزال دول عربية أخرى تتلمس طريقها، مع محاولات تدريس مواد الذكاء الاصطناعي في بعض المناهج بهدف وضع أسس لهذه الصناعة.
تباين واضح
عند قراءة آخر الأرقام، يظهر جلياً أن العالم العربي يسير بأكثر من سرعة في سباق الذكاء الاصطناعي.
ووضع المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي من Tortoise Intelligence كلاً من السعودية وقطر والإمارات والبحرين في المراتب الأولى عربياً.
في المقابل حلّت مصر في المرتبة 59 عالمياً وقد سبقتها كل من المغرب وتونس، ما يضعها في المراتب الأخيرة ضمن القائمة التي ضمت 62 بلداً.
ويرتكز المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي على 143 مؤشراً موزعاً على سبع ركائز فرعية: المواهب، والبنية التحتية، وبيئة التشغيل، والبحث، والتطوير، والاستراتيجية الحكومية، وتلك التجارية.
السعودية وقطر... قصص نجاح
حلت السعودية في المرتبة الأولى عربياً من حيث تبني وتطوير الذكاء الاصطناعي. إذ أنشأت البلاد، الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، التي تهدف لقيادة وتوحيد جهود السعوديين في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي.
وتولي المملكة الأولوية لتطبيق استراتيجية الذكاء الاصطناعي في قطاعات التعليم، والحكومة، والصحة، والطاقة، والنقل، والمواصلات.
وتعمل السلطات السعودية على دمج البيانات والذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم بهدف تحقيق التوافق بين النظام التربوي واحتياجات سوق العمل، وتطوير المسيرة التعليمية للطلاب. كما تهدف إلى الوصول إلى قطاع حكومي قائم على استخدام التقنيات الذكية ومُتسم بالفعالية والإنتاجية.
كذلك تسير المملكة في طريق مواءمة استخدامات الذكاء الاصطناعي في أنظمة الرعاية الصحية، وقطاع الطاقة، والنقل بهدف إنشاء أنظمة تقوم على استخدام التقنيات الذكية في التنقل، وتعزيز السلامة المرورية في المدن.
من جانبها، حلّت قطر في المرتبة الثانية عربياً في المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي، وذلك بفضل تبني استراتيجية فعالة في هذا المجال، قائمة على ست ركائز: التعليم والوصول إلى البيانات والعمالة والأعمال التجارية والبحوث والأخلاقيات.
وتسعى قطر إلى إنتاج تطبيقات ذكاء اصطناعي عالمية الطراز في المجالات التي تحظى بالاهتمام محلياً، وأن تتمتع ببيئة أعمال تتيح استخدام هذه التقنيات في الابتكار. كما تعمل لتصبح مستهلكة فعّالة للذكاء الاصطناعي، مع وجود مواطنين متعلمين تعليماً سليماً وقوانين سليمة.
وتتمحور أهداف قطر في مجال الذكاء الاصطناعي حول النمو الاقتصادي، والتقدم الاجتماعي، والاستدامة البيئية، وحماية التراث الثقافي وتعزيزه من خلال مبادرات مثل الترجمة للغة العربية.
وتتصدر مجموعة من المؤسسات في قطر العمل في هذا المجال، من بينها معهد قطر لبحوث الحوسبة، ومعهد قطر لبحوث البيئة والطاقة، ومعهد قطر لبحوث الطب الحيوي، وجامعة حمد بن خليفة، وغيرها.
المغرب واليمن... قصص محاولات
رغم أنه خارج التصنيف، يحاول اليمن إيجاد مكان له في سباق الذكاء الاصطناعي. إذ تضم جامعة الرازي في صنعاء اليمنية قسماً للذكاء الاصطناعي يهدف إلى تأهيل الطلاب في هذا المجال، والتنسيق مع مؤسسات محددة، وتنمية القدرات البحثية لدى الطلاب للإعداد للدراسة العليا في الذكاء الاصطناعي، وزيادة فرصهم التنافسية في سوق العمل.
ويدرس الطلاب في هذه الفصول مواد مثل البرمجة الكائنية، وهياكل البيانات، والخوارزميات، والرياضيات المتقطعة، والشبكة العصبية الاصطناعية، والتنقيب في البيانات وغيرها.
أما في المغرب، فافتتحت كلية أوروميد للهندسة الرقمية والذكاء الاصطناعي أبوابها في سبتمبر/أيلول في مدينة فاس وسط المملكة. وتقدم الكلية دروساً نظامية ودورات في علم الروبوتات والتعاون بين الإنسان والآلة، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وتقنيات الويب والموبايل والبيانات الضخمة.
وسيتمكن حوالي 100 من خريجي الثانوية العامة في أقسام العلوم والرياضيات والفيزياء وعلوم الأحياء، بالإضافة إلى حاملي شهادة البكالوريا التقنية، من متابعة التدريب المخصص للذكاء الاصطناعي داخل هذه المدرسة.
لكن الكلية ليست مجانية، إذ ستكلّف الطالب 57 ألف درهم في السنة خلال السنوات الثلاث الأولى و72 ألف درهم في العامين التاليين (بين 5.7 آلاف و7.2 آلاف دولار).
محاولات للتعاون العربي
يحاول العرب التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي وتوحيد الجهود وتبادل الرؤى حول هذا القطاع المتنامي. مؤتمر العمل العربي مثلاً، الذي انطلقت أعماله في 18 سبتمبر/أيلول الحالي، يضم لجنة فنية حول الذكاء الاصطناعي وأنماط العمل الجديدة.
كذلك يعقد فريق العمل العربي للذكاء الاصطناعي اجتماعات تناقش استراتيجية عربية موحدة، وقضايا ومجالات ذات الأولوية للدول العربية. كما يناقش الفريق أهمية التعاون المشترك لسد الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والدول النامية، والتغلب على التفاوت في الإمكانات التكنولوجية عن طريق تبادل الخبرات، وتشكيل إطار مشترك لبناء الكوادر البشرية في العالم العربي.
وجرى تشكيل فريق العمل العربي للذكاء الاصطناعي بموجب قرار من مجلس الوزراء العرب للاتصالات والمعلومات في دورته الثالثة والعشرين، وذلك استجابة للحاجة إلى ضرورة اتفاق الدول العربية على موقف مشترك وخطة عمل موحدة في مجال الذكاء الاصطناعي.
الفتاوي الدينية نموذجاً
الفتوى الدينية مثال على اختراق الذكاء الاصطناعي لمختلف مناحي الحياة، حتى أكثرها حساسية. فعام 2019، أطلقت إمارة دبي منصة إفتاء إلكترونية تعتمد على الذكاء الاصطناعي للإجابة عن الأسئلة الدينية من دون الحاجة إلى بشر.
وقال القائمون على الخدمة حينها إن المستخدمين يحتاجون فقط إلى دخول موقع أو تطبيق والتوجه إلى خدمة الدردشة Chat، ثم إرسال استفساراتهم ليتلقوا الرد تلقائياً.
وبعد 3 سنوات من هذه التجربة، وُقّعت وثيقة للفتوى في الحرمين تضمنت 20 بنداً، من بينها استثمار الذكاء الاصطناعي لبيان الإجابة للسائلين عن الأحكام الشرعية في الحرمين، وإعداد موسوعة للفتوى تستفيد من الذكاء الاصطناعي في التعرف إلى حال المستفتي، وإيصاله للسؤال وجوابه المناسب لحالته، وإعداد أدلة إلكترونية ترشد الحجاج وتوعيهم بأحكام الحج وشعائره، بحسب المكان والتوقيت وخصائصه الديموغرافية.
وفي مايو/أيار الماضي، دعت دراسة علمية إلى رعاية مقترح إنشاء تطبيق يستخدم الذكاء الاصطناعي في الفتوى، وتبنيه من جانب الجامعات والمؤسسات المهتمة، بحسب صحيفة الجزيرة السعودية.
واقترحت الدراسة البحثية التي حملت عنوان "الذكاء الاصطناعي وأثره في صناعة الفتوى" للباحث عمر بن إبراهيم المحيميد، تقديم هذا المقترح إلى الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، والتعاون معها لإنتاج هذه البرامج، بالتعاون مع الجهات والشركات ذات العلاقة.
لكن رغم كل هذه التحركات، لا يزال إدخال الذكاء الاصطناعي في الفتوى شبه منعدم، ما عدا ما يخص محركات البحث.
الدول العربية المتأخرة… من أين تبدأ؟
دول عربية عدة لا تملك بعد استراتيجيّات واضحة للذكاء الاصطناعي، وهي غير قادرة حتى الساعة على تحديد الأولويات في هذا المجال، بينما دول عربية أخرى باتت متقدّمة على مستوى العالم من حيث التخطيط والتوظيف.
ونشرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا توصيات لصناعة استراتيجيات ناجعة للذكاء الاصطناعي.
وتقول اللجنة إن هناك عدة مكونات لنجاح استراتيجية من هذا النوع، بينها ضمان تشريعات صديقة للابتكار، وتغيير دور الحكومة ليكون عامل تمكين للابتكار وضمان أن البنية التحتية اللازمة متاحة للجميع.
وبحسب اللجنة، يجب على البلدان تحديث المناهج الدراسية لتشمل مهارات البرمجة، والمهارات التي لا يمكن للحواسيب أو الآلات القيام بها، مثل التفكير النقدي، والتعاون، وبناء الفريق، والمهارات الاجتماعية والعاطفية.
ودعت اللجنة إلى التركيز على البعد الأخلاقي للذكاء الاصطناعي والإرشادات التوجيهية للبرمجة المسؤولة، وإلى نشر الوعي بين السكان حول فوائد وتحديات الذكاء الاصطناعي. كما دعت إلى تعزيز الصناعة المبنية على هذه التقنيات، والتركيز على التنافسية والأولويات الوطنية.