إعلام المقاومة: مقاتل يظهر ليلمس ثم يختفي

07 ديسمبر 2023
في دير البلح (مجدي فتحي/ Getty)
+ الخط -

انتهت الهدنة وعاد العدوان على قطاع غزة. العالم في حالة من الهذيان المحموم لإعادة تعريف الإنسانية، وما أفرزته من مصطلحات ومعايير. جيلٌ صغير من الشبان والشابات، أُطلق عليه جيل Z، لا يعير انتباهه سوى للمقاومة وما أفرزته الحرب الأخيرة من أيقونات نضالية ومفردات بصرية قائمة على أساس الأرض المحتلة. حدثُ الطوفانِ في فيلم النكبة الطويل، هو الذروة البصرية لهذا الجيل.
حديثٌ غير منقطع أو محسوم يدور حول شكل المنطقة بعد عملية طوفان الأقصى. أما بصرياً فقد حُسم كل شيء، طوفان الصور والفيديوهات كسر القالب الذي سُجن فيه المقاوم الفلسطيني، وحدد صورة كيان الاحتلال الإسرائيلي كمجرم حرب متعطّش للدماء. طوفان المشاهد تكثف في أيقونات ستحمي قصتنا الفريدة.

الطوفان على العمالقة

خلال العقد الماضي، انتشر مسلسل الأنمي "هجوم العمالقة" في كل أصقاع العالم. وكان في قوائم الأكثر مشاهدة بشكل دائم. المسلسل يروي قصة فيلق الاستطلاع الذي يريد أن يكتشف ماهية العمالقة التي تلتهم البشر، وطبيعة العالم خارج الأسوار العملاقة التي تحيط بمدنهم. وهذا سيحدث بأدوات بسيطة وتضحيات جبارة لأجل التحرر والأجيال القادمة. ظهر بعد طوفان الأقصى ثلاث مشهديات رئيسية تقاطعت مع المسلسل.
الأولى، كانت باسترجاع أسماء وقصص المناضلين اليابانيين على أراضي فلسطين، متمثلين بالأبطال الثلاثة الصغار في المسلسل. والمشهدية الأكثر شهرة، هي الدراجة التي طارت في السماء وهبطت على المستوطنات الإسرائيلية، إذ تتشابه مع العدة ثلاثية الأبعاد التي تساعد فيلق الاستطلاع على الطيران باتجاه العمالقة للقضاء عليهم. الأيقونة الأخيرة تتمثل بتشابه عملية طوفان الأقصى مع "دك الأرض"، المعركة الأخيرة في المسلسل التي دمرت جزءاً كبيراً من البشرية والعمالقة جميعهم، مشاهد الأرض بعد الدك شبه مستنسخة من صور قصف الطيران الإسرائيلي لغزة.
صورة غزة في الذاكرة الإسرائيلية، تتمثل كمعقل للعمالقة يجب التخلص منه. وفي المقلب الآخر، نجد السردية الإسرائيلية تتمثل بمواجه إسرائيل للعملاق شمشون الجبار، كتبرير لحقها التاريخي المزعوم الذي حصلت عليه باجتهادها. إلا أن الحقيقة اليوم بالنسبة للجيل الذي عاش أيام مراهقته في ظل الربيع العربي مختلفة، فهو مدرك تماماً للفرق بين الخرافة والأسطورة. هذا التراكم للمقاومة وتجاربها عبر الزمن، خلق سردية وطنية أسطورية تقابل بعناصرها المكونة سردية إسرائيل الخرافية.

عينان وإصبع

على هرم الأيقونات النضالية يتربع أبو عبيدة، الناطق الرسمي باسم كتائب القسام. استطاع هذا الملثم أن يواجه السردية المهيمنة بسردية مقابلة ساعدت على أيقنته. صوته أزعج الإعلام الغربي وذلك المُطبِّع. قاطع الرجل بجملته "يا كُلَ أحرار العالم" المشهد الممل الذي يعرض منذ سنوات طويلة. لم يرتبط كرمز نضالي بزمان محدد؛ فهذا الملثم موجود من قبل الطوفان، ونستطيع أن نراه في كل التظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية في العالم. إنه حنظلة خارج المخيم، أي مخيم كان، إنه الجسد الغض للشاب الفلسطيني الذي يستعد لرمي الحجر وهو في حالة التأهب الدائم للهجوم. له إرث وهوية ممثلة باللثام الشرقي. عبَّرَ عن المقاومة حصراً، فلا رتب عسكرية على كتفه ولا يرتدي عباءة الحياد الإعلامي الهلامية. سبابته تعدهم بالجحيم، وتؤكد حقنا باستخدام في مقاومة المحتل.
لكل فعلٍ مقاوم للاحتلال عند الفلسطينيين تاريخ موثق، فالطعن على سبيل المثال بدأ عام 1990، وأصبح أي إنسان فلسطيني هو طاعن محتمل للجنود الإسرائيليين بمجرد الاقتراب منهم. هذا الاقتراب رسم هاجساً للكيان الصهيوني وترجم على مستوى الحياة اليومية في الداخل الفلسطيني، فأصبح لمس العدو هو موت محتم له. لحظة بداية الطوفان كانت لمسة للكيان كاملاً، إعلاناً عن طعنة من مسافة قريبة جداً، وبعدها غوصٌ في أعماقه.
سبّب هذا الحدث صدمة وحالة من الهلوسة للكيان. ومع كل محاولة اجتياح بري للقطاع، يرى الاحتلال أشرس كوابيسه، فالمقاتلون يتحركون كالأشباح. يظهر ليلمس ثم يختفي. تلك اللمسة نراها في مقاطع الفيديو المسربة على مواقع لا يملكها الغرب، ما زاد من مصداقية المقطع. نرى يدان تظهرهما الكاميرة المثبتة على جبهة المقاتل، في إحداهما قذيفة توضع على دبابة الميركافاه (وتعني عربة الرب) وينسحب المقاتل، ثم يأتي الموت للعدو. مقطع مكرر يتماهى مع جيل كامل أتقن ألعاب الفيديو، وحفظ العلامات الأساسية للحرب كالمكان المدمر والشريط الصوتي الذي نسمع خلاله كلمات مبعثرة، ونتابع أداء المقاتل الرشيق.
هكذا، رُبط المُشاهِد بعملية القتال على اعتباره مقاوماً محتملاً لاحتلال قادم. أضعفت هذه الفيديوهات والمشاهد من الصورة العسكرية للاحتلال، والمهيمنة في العالم. إنها صورة المقاوم المتمثلة بشاشة تلتقط المشهد من الفضاء، ويد إلهية تقتل من تشاء بطيرانها. صورة فشلت أمام لعبة الخروج من الأنفاق والاقتراب من الحدث حتى ملامسته من المسافة صفر.

التحديد والعزل

في البدايات، وبعيداً عن السينما بشاشتها المستطيلة، تكرست في الإعلام المقاوم صورة رجال ونساء المقاومة، تخطت بسرعة وخفة الصورة الاستشراقية للغرب عن المقاومة، إذ دأبت منصاته على إرسال تلك الصور إلى حواضنها الاجتماعية للتطمين الاجتماعي والتعبئة والتحريض، وإلى العدو للتأكيد على العقاب القادم، في البدايات العفوية كان يقدِّم الفدائي وصيته في مقطع فيديو يضاف في نهايته نتيجة عمليته الفدائية، وجثث الأعداء المتشظية.

علوم وآثار
التحديثات الحية

حالياً، تتكرر مشاهد سينمائية حيّة واعية، مبنية على استراتيجية حذرة تتوخى الوقوع في فخ التكرار. خلال المشهد، يتم تحديد أو عزل الجسم الغريب في الكادر (كدبابة أو آلية عسكرية) تمر في قرية وادعة، ذلك عبر رسم دائرة حولها مدخلة عنوةً على الكادر البصري، لتحديدها كهدف متحرك شاذ عن أصالة مفردات المكان، وتوجيه أنظار المتلقي إليها ليشهد إليها وهي تنفجر، كضرورة حتمية لاستئصالها. وهذا يعاد اليوم بالمثلث الأحمر والزوم على انفجار الجسم.

المساهمون