إسماعيل العراقي (2/2): الأشياء التي تختلسها تُجسِّدُك أنتَ في الواقع

22 ديسمبر 2021
إسماعيل العراقي (الخدمة الصحافية لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي")
+ الخط -

(*) هناك مستوى آخر لقراءة الدور المركزي الذي تلعبه الموسيقى في الفيلم: حتّى جُمل الحوار بمعظمها إيقاعيّة وشاعريّة، ككلمات أغنية.

هذا بالضبط ما حصل. لم تكن هناك حدود بين الموسيقى والحوار، وحتّى القصة. كلّها تمثّل المادة نفسها في الواقع. أي أنّك ترى الشخصيات تستمع إلى أغنية لبوبي بلاند، فتُصبح كلمات التسجيل حواراً بلسان لارسن. وعندما تشرع رجاء في الغناء، تصدح بكلمات لارسن بطريقتها، فتصبح الكلمات أغنيةً مرة أخرى. هذه الحلقة مهمة جداً لي. من هنا أتت فكرة البناء الأول لأغنية "زنقة كونتاكت". عنوان الفيلم نفسه استقيته من عنوان أغنية. لا يوجد أيّ خط فاصل. لكنْ، من الذي يسمح بهذا في المقام الأول؟ إنّها خنساء باطما. بفضلها، الفيلم ليس كوميديا موسيقية، لأنّها عندما تغني بشكل حيٍّ ومباشر، ليست خنساء من تغنّي، بل رجاء. في حوزة خنساء دائماً ذلك الشيء الذي يتيح لك التقاط الغناء من دون أنْ تفقد الأحاسيس في أيّ لحظة، أنْ تبقى الأشياء أصلية وحقيقية.

 

(*) في كتابتك، تشتغل كثيراً على القصص الصغيرة داخل الكبيرة، مثل دمى ماتريوشكا. هذه القصص الصغيرة التي تعود في أفواه الشخصيات لتجسّد القصة المأساوية لطفولة لارسن، مثلاً.

نعم. تلك المتعلّقة بماضي رجاء، التي يرويها سعيد أيضاً.

 

(*) لكنّهم يعيشونها بالكامل في الحاضر، كما كان يقول ثيو أنغيلوبولوس. الماضي غير موجود، هناك حاضر فقط. يعيش لارسن رؤياه في الوقت الحاضر، إلى اللحظة المصيرية لتجلّي الحقيقة، حين تتخطّى الشخصية حدودها، وتُحقّق التحوّل.

أعتقد أنّه فيلم تحرّري. السؤال المركزي في الفيلم هو التحرّر. تحرير الكلام، والتحرّر من القيود الاجتماعية، وتحرير المرأة. يقول الإخراج الكثير عن هذا. في البداية، هناك لقطات ضيّقة كثيرة، للإحالة إلى مختلف السجون التي تأسر الشخصيات. فقط بعد تحرّرها، تُلتَقط في لقطات واسعة. لكنْ، في الواقع، هذا يتأتّى من تجربتي. عانيتُ صدمةً نفسية لكوني أحد النّاجين من هجوم "باتاكلان" (عملية إرهابية أودت بحياة 90 شخصاً من جمهور مسرح "باتاكلان" في باريس، أثناء حضور حفل موسيقى "روك"، في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، بعد تعرّضهم لإطلاق النار من عناصر "تنظيم الدولة الإسلامية" ـ المحرّر). عندما تخرج من صدمةٍ كهذه، لا تخرج بصفتك ناجياً أبداً، بل تغدو ضحيّة. خرجتُ منها شبه مجنون.

يقول الناس إنّي وضعتُ ذوقي الموسيقي في فيلمي. الأمر لا يقتصر على ذلك. أجزاء من الفيلم صُوّرت في منزل جدّتي، وأسطوانات الـ"فينيل" التي تظهر فيه مُلكي، والخواتم التي تراها في أصابع لارسن خواتمي. يُمكنك سماع صوت والدتي تغنّي، كما تحبّ أنْ تفعل منذ طفولتها. الممثلون أصدقائي المقرّبون. لكنْ، ليس كلّ ما وضعته منّي في الفيلم إيجابي. هلوسات لارسن ورؤاه آتية منّي. رؤى وهلوسات وكوابيس آتية من "باتاكلان"، أعطيتها لأحمد حمود، وتقبّلها بكرم عظيم. أتيتُ وأفرغتُ عليه كلّ هذه "الأدران"ـ التي تؤثّر عليك بطريقة لا تعرف كيف تتخلّص منها.

لم أرغب في أنْ يكون "زنقة كونتاكت" فيلماً عن الهجوم الإرهابي، لأنّه تجربة خاصّة جداً. هناك نسخ عدّة للسيناريو، يقع فيها هجومٌ على حفلةٍ يحييها لارسن. لكنّي أزلته للحصول على شيء أسطوري، يُمكن للجميع الارتباط به. في المقابل، قصّة رجاء تجلب بُعداً اجتماعياً أكثر، يحيل على أشياء كالعنف المنزلي والاغتصاب. هذه مجرد وسيلة لبلوغ الموضوع الرئيسي: ضغوط ما بعد الصدمة، وكيفية التخلّص منها. هذا يعني، كما عبّرتَ عنّه جيداً، أنّها تحدث في المضارع. كما يُقال، هذه لحظات انبعاث، وليست ذكريات. خنساء تقول ذلك في لحظة معيّنة من الحوار: كيف أنّها تعرف جيداً تلك النظرة الكامنة في عيني لارسن. هذه أشياء توجد فيك، وتحملها في جسدك. نميل إلى نسيان أنّنا جسد بالدرجة الأولى، وهذا الجسد لديه ذاكرة يمكن أنْ تكون مؤلمةً للغاية. هناك أشياء تنطبع عليك، فوق جسدك، وعلى عينيك، فتستنشق رائحة الرصاص، وترى شخصاً يموت أمامك.

 

(*) نقطة ارتكاز أخرى للفيلم: النّهل من الـ"سينيفيليا"، في مشاهد تحيل إلى أفلام كوانتن تارانتينو، مثل ما قبل الـ"جينريك"، عندما يظهر لارسن مُقيّداً، أو عندما يتأرجح على الكرسي أمام منزل رقية، على طريقة غاري كوبر.

هذه إحدى الإيماءات القليلة إلى الـ"وسترن"، الذي أعطاني الكثير، وبنى مرجعيّتي. في الواقع، أردتُ أنْ يكون منزل رقية نسخة أمازيغية للمنزل في "الباحثين" لجون فورد. لكنْ، حقيقةً أنا لا أؤمن إطلاقاً بالمرجع، لأنْ لا مكان له في كتابتي. أكتبُ، وتخرج الأشياء بهذا الشكل. هؤلاء المخرجون أعتبرهم أصدقاء الطفولة. هناك من اعتدت لعب كرة القدم معهم، وآخرون كنتُ أشاهد أفلامهم. هذا يولّد لديك انطباعاً كما لو كنت تعرفهم شخصياً، لأنّهم يتحدّثون إليك، وتجد أشياء مغربية جداً في عوالمهم. بالنسبة إليّ، تارانتينو ابن الدار البيضاء. حقاً. هذا المزيج من العنف والسخرية ليس غريباً علينا. يُمكن أنْ تتعرّض للاعتداء من شخصٍ ما في الدار البيضاء، يبحث في جيوبك، بينما يتهكّم على شكلك (يضحك).

 

(*) تماماً. أو يقذفك بجملة حوار نارية، كما عند تارانتينو.

هذا راسخٌ في داخلي. كلّما شاهدتُ فيلماً له، يبدو الأمر كأنّي أمزح مع الأصدقاء في الجوار. لذا، عندما أكتب، لا أكتب إطلاقاً مشهداً على طريقة المخرج الفلاني. أولاً، لأنّ المرجع يسحقك. الرجل عملاقٌ إلى درجة أنّه بإمكانه أنْ يسحقك. بهذا، لن تنتج أيّ شيء. ما تفعله هو التعبير عن نفسك بشكل طبيعي. بلغتك. في الحقيقة، ما يُعبَّر عنه ليس المرجع، بل الحبّ الذي لديك لمثل هذه الموسيقى والأفلام والمسرحيات والشعر. أنْ تقول لنفسك إنّك أنتَ فقط القادر على خلط محمد شكري مع ديفيد لينش بطريقة معيّنة، لأنّ الشخص الذي أصبَحْتَه، تكوّن منهما.

 

 

أعتقدُ أنّ علينا التوقّف عن الحلم، فالسينما عمرها 130 عاماً، وكلّ شيء أُنجز بكلّ الطرق الممكنة. لذلك، أعتقد أنْ لا داعي للشفقة. عليك أنْ تسرق من كلّ مكان، ومن الجميع، ليس فقط من الموسيقيين والمخرجين والشعراء، بل من الناس العاديين. أنا أسرق أيضاً من الممثّلين. أسرق من خنساء طريقة إشعال سيجارتها، أسرق تعبيرات من سعيد، ونكتة البداية التي سمعتُها على ناصية أحد الشوارع، وأضعها في فيلمي لأنّها توافق جيداً لغته.

لا داعي لأنْ تشعر بالأسف، لأنّ المزيجَ يجعل فيلمك أصلياً ومُتفرّداً. مزيج تفعله بالأشياء التي تختلسها من كلّ مكان، والتي تجسّدك أنتَ في الواقع. لأنّ ما تراه في العالم، سيأتي شخصٌ آخر ويراه أو يسمعه مثلك، لكنْ من دون أنْ يمنحه أي قيمة. أنت ستستخلصه وستخلطه بشيءٍ آخر ويُصبح مُلكَك. علينا أنْ نتوقّف عن تمجيد الأصالة، لأنّها غير موجودة أصلاً. أنتَ مجرّد واحد من آلافٍ قاموا بهذه المهمة.

 

(*) يتخلّل الفيلم انتقالات رائعة بين المَشاهد، كتلك التي تنقلنا من النار التي تحرق إحدى الشخصيات، إلى النار حيث تُشوى قرون الذرة. هل كانت هذه الانتقالات مكتوبة؟

بالتأكيد. أكتبُ في حالة غير طبيعية. هذا لا يعني أنّي أتناول مخدّرات لأكتب، أو شيئاً من هذا القبيل. الكتابة لي شكلٌ من أشكال الغشية. كمخرج وكاتب سيناريو، عليّ أنْ أكون في ثوب الشخصية. السينما لي أقرب إلى السحر من المسرح أو الأدب. السينما تجربة حسّية خالصة، تضعك في تجربة شخص آخر. هذا قريب من الاستحالة الجوهرية عند الكاتب، ومن الاستحواذ عندما تكون متفرّجاً.

عندما تكتب، وظيفتك أنْ تصبح امرأة تحبّ رجلاً، أو رجلاً يحبّ امرأة، أو رجلاً يكره رجلاً، أو كلباً يرى باباً مفتوحاً ويركض نحوه. عليك أنْ تدخل عقول الشخصيات وأجسادها، ليس فقط من الناس، بل عندما تكون لديك حيوانات، كالثّعبان. أمر غير اعتيادي، لكنّه يتيح لك الدخول في حالة أؤمن بها بشدة، تصبح السينما بموجبها شكلاً من الحسّ المرافق (سينيستيزيا)، فتنادي الأصوات ألواناً، وتستدعي الصُور حركات. تستجيب الأشياء بعضها لبعض، كما لو تمّ إخبارك أنّ الحرف "أ" أزرق، أو كما يقول المؤلّفون الموسيقيون إنّهم عندما يلحّنون مقطوعة يرون ألواناً، وإنّها بالنسبة إليهم لوحة تشكيلية. عندما تشتغل بهذه الطريقة، تأتي إليك شخصيات كاملة، كرقية التي تؤدّيها فاطمة عاطف، من أغنية موجودة في الفيلم بعنوان "نحيب"، وصورة كانت لديّ لفاطمة عاطف.

عندما نتحدّث عن الانتقالات، تستدعي العناصر بعضها بعضاً، وتستجيب النار للنار، ورمزية الثعبان الذي يُجسّد شيئاً إيجابياً للغاية، بالنسبة إليّ، وإلى شخصية لارسن أيضاً، لأنّه يرمز إلى والدته، وأيضاً إلى مفهوم التجدّد والفرصة الثانية، فالفيلم كلّه يدور حول ذلك: فرصةٌ ثانيةٌ.

 

(*) هل استغرق المونتاج وقتاً طويلاً؟

نعم، لسوء الحظ. وقتٌ كثير. وذلك بسبب التصوير بـ35 مم. انتهى بنا المطاف بمشاكل من زمن الأربعينيات. تتجلّى مشكلة تصويرٍ تمّ عام 2020 عادةً، في أنّك تُصوّر مواد كثيرة. بما أنّك غير مُقيّد بعدد ساعات التسجيل، تُصوّر كلّ شيء: التدريبات، وربما عشرات المحاولات، وتواجه مشكلة في تركيز طاقم العمل أثناء التصوير. فريقي كلّه يعلم أنّي أعمل بطريقة الستينيات، لأنّي لا أملك "كومبو" (شاشة يراقب المخرج بفضلها، بشكل فوري، ما تلتقطه الكاميرا ـ المحرّر). عندما تشتغل في البلاتوه معي، أنت شخص واقف. ليس لديّ كرسي ولا "كومبو". أنت لست هنا لمشاهدة التلفزيون. كلّ ما لديّ شاشة صغيرة بحجم هاتفك، أنظر منها إلى حواف الإطار مع الطاقم، وإلا فأنا أقف قرب الكاميرا، وأراقب الممثلين، وأقوم بالبروفات من خلال عدسة الكاميرا.

في ما يتعلّق بالتصوير، بما أنّي أعلم أنْ ليس لديّ سوى محاولة واحدة أو اثنتين فقط، فإنّ تركيز الفريق عندما أهتف "حركة" يكون في أقصى حدّ له. عندما نسمع صوت دوران الشريط في حجرة الكاميرا، هذا في الواقع صوت درج النقود. يعلم الجميع جيداً أنهم يجب أن يكونوا في أوج حضورهم الذهني. هذا التركيز لا يُقدّر بثمن. هذا رائع، لأنّ شريط الفيلم يجلب عليك إكراهات، لكنّه في الوقت نفسه يمنحك الكثير: الجمال والقوّة، وقبل كلّ شيء، تركيز الفريق. يُصبح وسيلة لإدارة الممثلين.

المشكلة تقع عند الوصول إلى المونتاج ومعك 15 ساعة فقط من المادة التصويرية، لإنتاج فيلم مدّته 3 ساعات، في المونتاج الأولي. هذه نسبة مستحيلة بصراحة.

 

(*) في ظلّ هذه الظروف، يصبح الأهمّ هو المونتاج في المشهد.

بالضبط. اعتمدتُ كثيراً على المونتاج في المشهد. لكنّك تجد نفسك أيضاً في وضعيات تفتقد فيها المادة التصويرية. مثلاً: مشهد تبادل إطلاق النار على طريقة الـ"وسترن". رسمتُ "ستوري بورد" له في 21 لقطة. لكنْ، نظراً إلى شريط الفيلم والوقت المتوفّر لتصويره، أنجزته في 10 لقطات، إلى درجة أنّي لم أتوفّر على الوقت اللازم للذهاب بعيداً عن المدينة، فصوّرناه في مكانٍ، لا أرغب في الكشف عنه، لكنّه قريب جداً من الدار البيضاء. افتقدتُ 11 لقطة في نهاية المطاف. كيف سأحصل عليها؟ لم تكن لديّ لقطات عامّة. كان عليّ اختراعها، أو إيجادها بأي طريقة. صنعتُ لقطات من تجميع أشياء متفرّقة وصُور. عليّ التفكير وفق الصورة المفقودة، وما يحدث في مواضع اللصق. أنْ أعتمد على الصوت، وجمالية الاقتصاد: كيف تضع أشياء أقلّ لتقول أكثر.

المساهمون