إسلام بدر: ما نوثقه في غزة نذر يسير من المجازر

24 ديسمبر 2023
أصيب إسلام بدر بقصف على جباليا، الثلاثاء الماضي (إكس)
+ الخط -

يواصل الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة التي يشنها على غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ويستهدف الطواقم الصحافية في محاولة لثنيهم عن نقل جرائمه إلى العالم، في ضوء الحصار المفروض على القطاع. ولم توقف آلة القمع الإسرائيلية حملتها المستعرة على الصحافيين الفلسطينيين قتلاً واعتقالاً وترهيباً.

وفي هذا السياق، أصيب الصحافي المتعاون مع التلفزيون العربي إسلام بدر وزميله محمد أحمد، الثلاثاء الماضي، بقصف إسرائيلي استهدف منطقة "بلوك 2" في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة.

ويتحدث إسلام بدر لـ"العربي الجديد" عن لحظات إصابته بالقصف على مخيم جباليا ونقله إلى آخر مراكزها الصحية، علماً أنه اضطر مع قاطنيه لمغادرته بسبب اشتداد القصف عليهم، والذي كان يقطع حديثنا معه.

حدثنا أكثر عما تعرضت له وزميلك محمد أحمد...

كنا متوجهين من تغطية صحافية في مركز جباليا الطبي لاستشهاد طفل بعد محاولات مضنية لإنقاذه، إلى مدارس الإيواء، لتغطية انتشار الأوبئة بين الأطفال تحديداً نتيجة سوء الأوضاع الصحية. في منتصف الطريق تقريباً، تعرض منزل أمامنا للاستهداف بطائرات إف 16، وهو مطل على شارع مزدحم، كونه الشارع الرئيسي والوحيد الواصل بين جباليا وجباليا البلد.

اللحظات الأخيرة التي أتذكرها أنني كنت أصور أمامي وأنا أسير، وكان الشارع مليئاً بالناس. فجأة حصل الانفجار، وكثافة الناس تحولت إلى كثافة في الجرحى والشهداء، كل من كانوا أمامي استشهدوا. وخلفت تلك المجزرة نحو ثلاثين شهيداً.

الزميل محمد تعرض لإصابة بشظية في الفخذ، وأنا تعرضت لثلاث شظايا، الأولى في الرقبة والثانية في الكتف والثالثة في الحوض. الشظية الأولى كانت في مقتل، لكن الدرع تلقى الضربة بشكل رئيسي وتمزق، وعندما أكملت الشظية طريقها نحو الرقبة كانت حدتها قد خفت. أخرجت الشظية التي أصيب بها الكتف في المركز الطبي، لكن شظية الحوض كانت بحاجة لوجود طبيب مسالك بولية وطبيب جراح، وهذا غير متوفر حتى هذه اللحظة. حالياً أتناول المضادات الحيوية فقط حتى أستطيع الاستمرار ولا تحدث مضاعفات، إلى حين إجراء العملية.

أثناء تقريرك لـ"التلفزيون العربي" قلت: "نعاني من إصابات، ولكننا سنحاول التوثيق..." وأكملت التقرير حتى غبت عن الوعي، ما الذي دفعك إلى إكماله رغم إصابتك؟

في اللحظات الأولى لمثل هذا الاستهداف لا يشعر الإنسان بنفسه. يغيب الإدراك لديه لثوانٍ أو لأجزاء من الثانية بسبب هول الانفجار. أنا ارتدّيت للخلف عدة أمتار من شدة الانفجار، ثم حاولت الاحتماء من الشظايا، وبعدها أمسكت الكاميرا من أجل التوثيق. في الحقيقة، لم أدرك أنني مصاب إلا بعد أن فتحت الكاميرا الأمامية وشاهدت رقبتي وهي مغطاة بالدماء، لكن لم أكن أدرك بعد حجم الإصابة. حاولت التقدم أكثر نحو مكان الاستهداف، كما العادة، ولكن مع تقدمي في المسير، شعرت بازدياد التعب وبالجراح الأخرى، فاضطررت إلى العودة.

نحن كصحافيين نقدر الدور والمسؤولية الملقاة على عاتقنا في توثيق هذه الجرائم وغيابنا أو تقصيرنا في توثيقها في ظل عدم وجود أي بديل عنا، حتى عند إصابتنا، لن يكون في صالح إيصال الحقيقة وكشف جرائم الاحتلال المستمرة بحق المدنيين وبحق أهلنا في قطاع غزة، وهذا كان الدافع الأساسي لي للاستمرار حتى بعد معرفتي بإصابتي، ولكن بعد تصويري مقطعَ الفيديو الذي لم يتجاوز دقيقة وربع تقريباً، لم أستطع التقدم أكثر، وكان لزاماً عليّ أن أستسلم وأقطع التصوير، وبعدها حصل ما حصل معي، ونقلت إلى المركز الطبي.

نُقلت مع الصحافي محمد أحمد إلى مركز جباليا الطبي. هل يمكنك أن تحدثنا أكثر عن حالة المرافق الصحية في مخيم جباليا؟

مركز جباليا الطبي هو تجمع لعيادات أطباء أسنان وعيادات أطفال، وهو مكان للمراجعة الطبية، وليس مستشفى. وعدا عن مساحته الصغيرة، فإنه لا يمتلك إمكانات طبية على الإطلاق. وصلنا إلى هناك مع عشرات المصابين. أصبح أمراً طبيعياً أن نكون موجودين على الأرض في غرفة ليست مخصصة لإجراء جراحة أو علاج أو حتى غرفة استقبال، وكذلك الانتظار حتى يتفرغ ممرض أو طبيب لمعاينة الحالة أصبح أمراً طبيعياً، للأسف الشديد، في ظل اكتظاظ أعداد المصابين وشدة الإصابات وفداحتها. الوضع الصحي والطبي في مركز جباليا كان متواضعاً جداً، وفي اليوم التالي تم إخلاء المركز وإنهاء العمل فيه، بعد تلقيه إنذاراً من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وكان آخر المراكز الطبية العاملة في جباليا.

ما المضايقات والصعوبات التي تتعرضون لها كصحافيين؟

نتعرض لكل ما يتعرض له الناس عملياً من حصار، وشح الإمكانات والطعام، وعدم وجود مكان آمن. وفوق ذلك، فإن طبيعة عملنا تقتضي توفر الاتصالات والإنترنت، ولكنها مقطوعة أو نادرة، ما يقيد عملنا. هذا عدا عن الاستهداف المتكرر لبيوتنا ولأهلنا ولنا. كل ذلك يلقي بظلاله بالطبع على قدرتنا على تغطية الأحداث، والاحتلال بطبيعة الحال معني بإسكات صوتنا وإنهاء التغطية الصحافية خصوصاً في شمال غزة. وعلى الرغم من هذا الاستهداف، فإنه لم يستطع تحقيق مراده من هذه المجازر التي يرتكبها ضد الصحافيين وعامة الناس في قطاع غزة.

هناك الكثير من الصور والفيديوهات المؤلمة التي تأتينا من غزة، لكن هناك الكثير من الجوانب غير الممثلة بشكل كافٍ في وسائل الإعلام، حدثنا عنها...

ما يوثَّق في غزة نذر يسير مما يحصل على الأرض. المجازر التي ترتكب والقصف واستهداف المدنيين هائلة. نحن نمسي وعدد الشهداء يتراوح يومياً بين مائة ومائة وخمسين، وفي بعض الأيام يصل إلى مائتين، وما نستطيع توثيقه هو آحاد أو عشرات في أفضل الأحوال، وبالتالي هناك كثيرون لم يحظوا بأي تغطية، ولم نقل للعالم كيف استشهدوا. هؤلاء ليسوا مجرد أرقام. إنهم بشر، وحياتهم مهمة. هؤلاء الأمهات والأطفال والشبان والأزواج كانت لهم حياتهم وقصصهم التي يجب أن تروى. وبطبيعة الحال، هذا الموضوع مرهق لنا أيضاً على اعتبار أننا نتحمل مسؤولية إيصال هذه الرسائل وفضح هذه الجرائم وكشفها أمام العالم وإيصال صوت الناس الصامدين رغم كل هذه المجازر.

وهناك العديد من المشاهد التي لا أستطيع شخصياً توثيقها أو تصويرها، فلا أريد أن أكون انتهازياً في لحظات الوداع الأخير لأم تحتضن طفلها، مع أني مدرك تماماً أن هذا المشهد سيكون مؤثراً، لكن توثيقه فيه اقتحام لهذه اللحظات التي لن تتكرر لهذه الأم مثلاً. هذا جزء نعتذر عن توثيقه غالباً، فلا نريد أن نبدو كاللصوص ونحن نتلصص على الناس.

كيف تتعايشون كصحافيين مع الآثار العاطفية والجسدية لكلّ هذه الأحداث المؤلمة التي تغطونها وتعيشونها؟

الآثار العاطفية والجسدية لما نشاهده للأسف بالغة التعقيد، فالآثار التي تترتب علينا أننا ونحن نتابع هذه الأخبار نكون في بؤرتها، وبالتالي نحن نتابع ونشاهد أخبار الشهداء بشكل كثيف. فعامة الناس يتعرضون إلى ما يتعرضون له في دوائرهم الضيقة، أما نحن فنتعرض لكل ما يتعرض له الناس تقريباً، لأننا نحاول أن نرصد أكبر عدد ممكن من المجازر وأن نصور أكبر عدد ممكن من الشهداء، وبالتالي كل مجزرة وكل شهيد وكل جريح نصوره أو نسجل معه أو نوثق أوضاعه في الحقيقة نكون جزءاً من المشهد الذي هو فيه، وبالتالي هذا يترك أثراً كبيراً. نحن نرى في كل شهيد أطفالنا، ونرى في كل سيدة إما أماً أو زوجة أو نظيرتها بالنسبة لنا، وكل رجل كبير هو بمثابة والد.

ونحن لم نعتد بعد، رغم كثرة وشيوع مشاهد الدم والأشلاء وحتى الجثث المحروقة. لم نعتد هذه المشاهد، ولن نسمح لأنفسنا أساساً أن تكون هذه المشاهد عادية نمر عليها مرور الكرام أو نوثقها بكل برود. هذه المشاهد هي مشاهد إنسانية صارخة في كل مرة نوثقها. نوثقها كأول مرة، وهذا بطبيعة الحال يترك أثراً بالغاً على المستوى النفسي والعاطفي بالنسبة لنا.

هناك استهداف ممنهج للصحافيين منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حتى وصل عدد الشهداء من العاملين في مجال الإعلام إلى مائة شهيد، إلى جانب استشهاد العشرات من أفراد عائلاتهم. هل تشعر أن حياتك وعائلتك بخطر؟

من الواضح أن هناك استهداف إسرائيلي متعمد للصحافيين، والهدف هو إنهاء أو كتم صوت الشعب الفلسطيني. الاحتلال يقوم بقتلنا، ويعدم الصوت الذي يمكن أن ينقل للعالم المجازر التي يرتكبها. بالتأكيد أنا أشعر بالخوف على عائلتي، لأن هناك عائلات كثيرة لصحافيين استشهدت، والحذر من هذا السيناريو قائم، ونحن نعمل على اتخاذ إجراءات ممكن أن تكون حافظة أو حامية قدر الإمكان. لكن في النهاية، الاحتلال الإسرائيلي يقصف ويدمر كل شيء أمامه، ولا نملك إلا أن ندعو الله أن يحفظ أهلنا وأسرنا.

ما أصعب اللحظات التي مررت بها خلال تغطيتك الأحداث في جباليا، فضلاً عن إصابتك؟

كل اللحظات التي غطيناها صعبة. لا أذكر موقفاً مؤثراً أكثر من غيره، فقد رأيت جثثاً محروقة، وجثث أطفال، وأسراً كاملة فارقت الحياة، وجثامين لا معالم لها تدفن وحيدة رغم أن أقاربها ربما يكونون موجودين، لكن لم يتعرفوا عليهم. وبالتالي حجم المجازر لم يجعل لمجزرة ميزة تفضيلية عن مجزرة أخرى، فكلها أبشع من بعضها، وبالتالي لا توجد لحظة أقول إنها أكثر حضوراً أو ذِكرًا، للأسف طبعا، لأن كل اللحظات التي وثقناها بالغة السوء والبشاعة.

المساهمون