- يسلط الضوء على شخصيتين من طالبان، مولوي منصور ومختار، وجهودهما لبناء مهن عسكرية وتعاملهما مع المعدات العسكرية المتقدمة التي تركها الجيش الأمريكي.
- يعرض تجربة إبراهيم نشأت الشخصية والمهنية، من بداياته كمصور حتى تصويره للحياة تحت حكم طالبان، متغلبًا على التحديات لتقديم صورة معقدة ومتعددة الأبعاد للحياة تحت حكمهم.
ما ميّز "بوابة هوليوود" (2023)، الوثائقي الطويل (92 د.) للمصري إبراهيم نشأت، اقترابه من عالم حركة طالبان، عند استلامها الحكم، مباشرة بعد انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان. يرصد، في سنةٍ كاملة، كيفية تحوّل حركة أصولية إلى نظام عسكري، يحاول التأقلم مع التكنولوجيا الحديثة، ويكتشف أهمية الدعاية. يتابع التحرّكات اليومية لعناصر منها، وعلاقات بعضهم مع بعضهم الآخر، وسلوكا لا تبرزه وسائل الإعلام لهؤلاء المحاربين الأشداء، بلباسهم التقليدي، ولحاهم السوداء الطويلة، وأسلحتهم التي يشهرونها، وهم يتعرّفون مثلاً إلى أحدث التقنيات، أو يلهون بمتعة مع أجهزة رياضية أميركية، يكتشفونها للمرّة الأولى.
يتابع نشأت رجلين من الحركة. بعد الانسحاب الأميركي، توجّهت "طالبان" فوراً إلى ما زُعم أنّه قاعدة سابقة لـ"وكالة الاستخبارات المركزية" في كابول، للسيطرة عليها. في مجمّع "بوابة هوليوود"، يقع رجال الحركة على ما تركه الجيش: طائرات وأسلحة ومعدّات عسكرية قيّمة. يدهشون ويحتارون أمام تكنولوجيا متقدّمة، ليسوا معتادين عليها. يأمر مولوي منصور، قائد القوات الجوية المُعيّن حديثاً، جنوده بجَرْد وإصلاح كل ما في وسعهم. أمّا مختار، المتحمّس لغزو العالم يوماً ما، فيدخل البوابة بهدف بناء مهنة عسكرية رفيعة المستوى. وبينما يركّز مولوي منصور ومختار على تحقيق أقصى قدر ممكن من أهدافهما الشخصية، يواصل رفاقهما إصلاح الأسلحة، التي كانت تستخدمها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ذات يوم، والتي أصبحت الآن بين أيديهم.
تابع ابراهيم نشأت هذا الصعود، بمرافقته اليومية مقاتلي الحركة، مُصوّراً تحرّكاتهم واكتشافاتهم واجتماعاتهم، ولحظات جدّهم ومرحهم، مع كلّ ما يعنيه هذا من مخاطر. إذْ حتى لو تمّ هذا بموافقتهم، يجب أنْ تُحسَب كلّ الحسابات مع "طالبان".
في الدورة 26 (7 ـ 17 مارس/آذار 2024) لـ"مهرجان سالونيك الدولي للسينما الوثائقية"، حضر إبراهيم نشأت، ففيلمه مُشارك في برنامج "الوثائقي الهام" غير التنافسي، فكان لـ"العربي الجديد" حوار معه.
(*) كنتَ مُختبئاً دائماً وراء الكاميرا، راصداً صامتاً. هل تُعرّفنا بنفسك؟ كيف وصلت إلى السينما؟ كيف قرّرت الإقدام على هذه المغامرة؟
درستُ الصيدلة في مصر، وكان يُمكن أنْ أصبح مُعيداً. لكنْ، طرأ تحوّلٌ على حياتي، مع الثورة ("ثورة 25 يناير" 2011 ـ المحرّر). بدأتُ تصوير ما يحدث في الشارع. هذا جعلني أكتشف ميلي إلى العمل الإعلامي. لكنّي لم أجد فرصة عمل في مصر، فغادرتها. عملتُ مُصوّراً ومونتيراً في وسائل إعلامية عدّة، منها "الجزيرة" و"صوت أميركا" و"دويتشه فيله" الألمانية. أتاح لي عملي لقاء رؤساء وزعماء من العالم. ثم تبيّنت تدريجياً أنّ شغلي ينحصر في نقل كلام الآخرين، وأنّي مجرّد وسيط. قرّرت ترك العمل الصحافي، والدراسة في برلين. هناك، التقيتُ طلال ديركي (مخرج وثائقي سوري ـ المحرّر)، وعملت معه في توليف "تحت سماء دمشق" (إنتاج عام 2023 ـ المحرّر).
حينها، بدأت أحداث أفغانستان، ومعها ذاك المشهد المشهور: تعلّق أناسٍ كثيرين بطائرة أميركية مغادرة، فهم يريدون الرحيل معها. أثّر المشهد فيّ، وجعلني أفكّر في قضايا كثيرة، وألمس التشابه بين أوضاعهم وأوضاعنا، كما حجم الدمار الذي يخلّفه الأميركيون، وادّعاء الديمقراطية.
عندها، قرّرت التوجّه إلى أفغانستان.
(*) ما الإجراءات التي اتّبعتها؟ هل حصلت على تأشيرة دخول مثلاُ؟ هل تواصلت مع أحد هناك، قبل الذهاب؟
قرّرت الذهاب رفقة طلال، والمنتج اللبناني محمد البنا. تواصلتُ، بصفتي صحافياً، مع Fixer (شخصٌ هناك يتدخّل ويُدير العلاقات ـ المحرّر)، أمّن لي موافقة للقدوم، ومترجماً. حين وصلت، لم يرد على اتصالاتي، وتجاهلني تماماً، فوقعت في حيرة وارتباك.
(*) ألديك فكرة عن سبب تصرّفه؟
ربما لأنّي أخبرته عن فكرة فيلمي، فنقلها إلى آخر. كنتُ أريد تصوير فيلمٍ عنوانه "شورى"، عن كيفية اتّخاذ "طالبان" القرارات. رغبتُ في إظهار ادّعاءاتهم. الآن، أشعرُ أنّها فكرة ساذجة، لأنّهم بدوا على حقيقتهم، بأسرع ممّا كنّا نتصوّر.
(*) كيف تصرّفت حينها لتنجو من هذا المأزق؟ كيف وصلت إلى القوى الجوية؟ أكان هذا خياراً أم فرضاً؟
بما أنّ هذا الشخص المُحدّد لم يكن معي، رفضوا استقبالي في الحركة، وطلبوا مني المغادرة فوراً. أخذني المترجم، ربما للتخفيف عنّي، في زيارة إلى المطار العسكري، لديه قريبٌ يعمل هناك. حين وصلت إلى المكان، عرفت أنّ هذا ما أريد تصويره، وأنّ هذا سيكون الفيلم. تعرّفت إلى العسكري مختار، الذي بات من الشخصيات، إذْ وافق على الظهور فيه، شرط الحصول على أذونات التصوير. سألت مولوي أمان الدين منصور، قائد القوى الجوية الذي لم يكن حينها القائد العام، التصوير، فوافق، مُلمّحاً إلى السماح لي بالتصوير مبدئياً، لكنْ عليّ الانتباه. انتبهت إلى نغمة التهديد في لهجته، فطلبت من المترجم ألا يترجم لي أيّ شيء يقولونه عنّي، كي لا يوهن هذا عزيمتي، ويصيبني بالخوف. صوّرته وهو يُكبِّر في مراكزه، ومع الوقت كانت الموافقات المطلوبة مني تتزايد، بحيث بات لديّ ملف ضخم منها. التعقيدات تتصاعد، وصرت كـ"سيزيف"، الذي يحمل الصخرة.
(*) كيف قدّمت نفسك لـ"طالبان"؟ أفرادها، كما نرى ونسمع تعليقاتهم في الفيلم، حذرون جداً من الصحافيين، بل إنّهم يشتمونهم ولا يحبّونهم، وبعضهم يستغرب وجودك بينهم.
حاولت إقناعهم أنّي سأقدّمهم كما هم، وأنّي لن أغيّر شيئاً. سعيت إلى أنْ أكون ثابتاً في سلوكي وتحرّكاتي، وألاّ أفاجئهم. كانوا يفتشونني باستمرار، حتّى النهاية. كان لديهم خوف من تكرار حادثة اغتيال القائد مسعود. كانوا لا يتوقّفون عن سؤالي عن الجهة التي أعمل لحسابها، وعمّا إذا كنت تابعاً لهذا البلد أو ذاك. كانوا يجدون دائماً أسباباً للشكّ في نواياي. كان المترجم لا يترجم لي ملاحظاتهم على وجودي بينهم في التنقّلات والاجتماعات. اكتشفتها في المونتاج لاحقاً.
(*) هل تعتقد أنّ كونك عربياً مسلماً ساهم في تقبّلهم لك؟ هل وضعت انتماءك في المقدّمة حين توجّهت إليهم؟
كان واضحاً منذ البداية أنّي مسلم. كنت أصلّي معهم، وتخيّلت أنّهم سيرحبون بي لهذا السبب، وأنّي سأكون مرتاحاً. لكنّي تبيّنت خطأ ذلك، فمعرفتهم ستقودهم إلى طرح أسئلة عقائدية وامتحاني في بعض الأمور. صحيحٌ أنّهم كانوا مرتاحين إلى معرفتي بتقاليد معيّنة، كعدم النظر إلى امرأة عابرة مثلاً، وصدقي معهم، وعدم الكذب. لكنْ، أعتقد أنّ أكثر ما أعجبهم، وكان الدافع الأكبر لقبولي، ليس كوني عربيا مسلماً، بل صُوري مع رؤوساء مهمّين. هذا يعني أنّهم هم أيضاً مهمّون، لأنّي سأصوّرهم.
كانوا يقولون لي أيضاً إنّ الصحافيين يكذبون عليهم بوعودهم وادّعاءاتهم بأنّهم سيُحسّنون صورتهم في أميركا. كان بعضهم يهدّدني أحياناً بالقول: "ماذا لو قتلتك الآن؟"، فأردّ بأنّي أحاول نقل الحقيقة، وأنّ قتلي سيكون قدري. كانوا يهدّدوني طوال الوقت وهم يبتسمون.
(*) اذكر لنا بعض التحدّيات التي واجهتك.
في البداية خاصة، أخذ بعضهم الكاميرا منّي، وربطوني في مكان مغلق. ثم مع الوقت، تفهّموا عملي أكثر. كان رجل أمن يرافقني باستمرار. كانت احتفالاتهم بالنصر، والعرض العسكري بعد سنة من استلامهم الحكم، آخر ما صوّرت. بعد انتهاء ذاك اليوم، طلبوا منّي التوجّه إلى فرع المخابرات، لكنّي أحسست بالخطر، وبأنّهم يودّون الاطّلاع على محتوى التصوير، فتوجّهت فوراً إلى المطار، وكان آخر يومٍ لي هناك.
(*) كيف كان يومك يمضي؟ معهم طوال الوقت، أم كانت لديك مساحة من حرية التنقّل؟ وهم، هل يبدأون يومهم في وقت محدّد، ويلتزمون نظاماً معيّناً؟
كان هناك شعور بضجر يلازمهم، فلا حرب تُشغلهم. كنت أرافقهم أغلب الوقت، وأحاول التأقلم مع المتغيّرات. أجلس في رُكنٍ من المجلس، ولا أصوّر، حتّى ينسوا وجودي. كانت هذه أكثر سنة أمضيتها صامتاً في حياتي. غير هذا، كنت أمارس الرياضة فقط.
(*) هل كانوا فضوليين لمعرفة شيء عنك؟ هل كانوا يطلبون الاطّلاع على ما تصوّر؟
كانوا يتعاملون معي على أنّي غريب الأطوار. شخصٌ يجلس صامتاً طوال الوقت، فيقولون: "دعوه في حاله"، أو يسألونني باستغرابٍ عمّا أفعله بينهم. كنت لا أحاول التقرّب منهم، لأنّي وصلت إلى هذا المكان بصعوبة بالغة، ولو كسرت الحاجز بيننا لا أضمن النتائج. كنت أريهم بعض ما أصوّر فقط.
(*) أدهشني عناصر لـ"طالبان" في الفيلم، بل أضحكني بعضهم. هؤلاء المحاربون الأشداء كانوا يمزحون كثيراً، وبدوا أحياناً كأطفال يكتشفون ألعاباً جديدة. أيمكنك وصف الشخصية الطالبانية كما رأيتها؟ هل رأيتهم في مواقف عاطفية مثلاً؟
يصعب وصفهم جداً. مختار مثلاً، الذي تعلّم مهنة الطيران، دمّرت الحرب دماغه، ويعاني صدمة ما بعد الحرب، ولا قدرة له على التعبير عن المشاعر. لا يستطيع الاقتراب من ابنته، كما يفعل أي أبّ مُحبّ. إنّه شخص مكسور تماماً. هذا وَضْع الأفغان جميعهم، فهم في حالة نفسية سيئة للغاية. "طالبان" ليست واحداً، إذا اختلفوا كأشخاص، تتحّكم الجماعة بهم. الشيء الوحيد الذي يجمعهم السمع والطاعة والأمير، وهو فوق الإله وكلامه قرآن. سمعتُ مراراً: "لو أمرني الأمير بإلقاء نفسي في النار لفعلت". هذه سمة تجمع بينهم. كانت عاطفة بعضهم تتجلّى مع أولادهم فقط.
أما مزاحهم فعبارة عن نكاتٍ سخيفة. إنّهم يضحكون لأيّ سبب، لمأساوية حياتهم. هم بشر عاشوا طوال عمرهم في حرب. ربما نختلف مع فكرهم، لكنّهم بشر، وكلّ شخص يقنع نفسه في النهاية أنّ ما يفعله صَحّ.
(*) هل راودك شعورٌ بتعاطف معهم، يوماً ما؟
يولّد العيش الطويل معهم نوعاً من التعاطف. الطبيبة النفسية التي كنت ألتقيها من وقتٍ إلى آخر في برلين، دلّتني على طريقةٍ للتغلّب على هذا الشعور. حين كنت أجد نفسي متعاطفاً معهم، أطرح أسئلة عقائدية على نفسي، يصعب العثور على إجابات مقنعة عنها. هكذا أتبيّن الفرق بيني وبينهم. أسئلة عن تعاملهم مع المرأة مثلاً. نحن ننظر بدونية إلى شخص غير متعلِّم وغير مثقّف. لكنّهم نجحوا بما يريدون فعله، وهم يسيرون في الاتجاه الذي رسموه لأنفسهم. تعلّمنا، في أفلام هوليوود، أنّ الإنسان شريرٌ بالكامل، أو طيّب بالكامل. لكنْ، لكلّ شخص ميزات وحسنات.
"بوابة هوليوود" ضد الحرب ومآسيها، وفضيحة لهوليوود التي جعلت هؤلاء وحوشاً مرعبة، وهم أناس على قدر حالهم فكرياً. الأميركيون أتوا بهم ووضعوهم هناك، وتركوا لهم كلّ هذه الأسلحة. دوري أنْ أنقل الصورة إلى العالم، والقرار للسياسيّين. الحرب لا تقضي على الإرهاب، بل تولّد حروباً أخرى.