استمع إلى الملخص
- دور السينما والتوثيق: يتساءل النص عن قدرة السينما على توثيق هذا الواقع المأساوي، مشيراً إلى تحديها في تصوير الدمار مقارنة بالكاميرات التلفزيونية والفوتوغرافية التي توثق الأحداث يومياً.
- العجز عن التعبير: يعبر النص عن شعور بالعجز في الكتابة والتصوير عن هذا الوجع العظيم، موضحاً أن الفرق بين الواقع والمتخيل أصبح أوهن من أن يصمد أمام وحشية الواقع.
أهذا فيلمٌ يُشاهَد في صالةٍ مفتوحةٍ على دمٍ وغبار وقهرٍ وأشلاء، أمْ واقعٌ مليء بما تعجز السينما عن التقاط شيءٍ منه على الأقلّ؟ أهذا شريطٌ بالأسود والأبيض، يُصوِّر ما لن تتحمّله أجسادٌ وأرواح، أمْ واقعٌ مُلوَّنٌ بقبحٍ وعجزٍ ومخاوف، يكاد يُنكَر لأهوالٍ تحلّ فيه، ومصائب يصنعها وحشٌ متفلّت من كلّ قيدٍ ومُحاسَبة؟ أهذه لقطةٌ تطول إلى ما بعد أعمارٍ وانكسارٍ، أمْ كادر ينغلق على عيون مفتوحة على دهشة طفلٍ، وحسرة أمٍّ، وصمت جَدّ، وعلى تفرّق رجالٍ يهيمون في فراغٍ، لعلّ في الفراغ ملجأ لعائلاتٍ، أو مُتنفّساً لأهلٍ؟
ليلةٌ (27 ـ 28 سبتمبر/أيلول 2024) لن تختصر أشهراً من حربِ إبادة تنتقل في الجغرافيا، لتُحقِّق أهمّ إنجازِ في تغييب شعبٍ أو أكثر، وفي مَسح بلدٍ أو أكثر. ليلةٌ تقول إنّ كلّ صورة، فوتوغرافية أو مُتحرّكة، غير مالكةٍ ما يُلغي حاصلاً في فردٍ أو بيئةٍ، أو أكثر من فردٍ وبيئة. والحاصل، بما فيه من قتل وإلغاء ومَسح، أكبر وأخطر وأعمق من أنْ تلتقطه صورة، فوتوغرافية أو مُتحرّكة. ليلةٌ ستكون، في شكلٍ ما، كأيّ ليلة سابقة عليها، منذ اندلاع حربِ إبادة إسرائيلية جديدة ضد الفلسطينيين والفلسطينيات أولاً، قبل بدء نسخة لبنانية منها، منذ 20 سبتمبر/أيلول 2024 (اغتيال إبراهيم عقيل، القياديّ في حزب الله). ليلةٌ مُضاءةٌ بجثث مدنيين ومدنيّات يُقتلون، فذنبهم/ذنبهنّ أنّهم يُقيمون في مدينةٍ يعتبرونها ملاذاً لهم من غدر الحياة، وفي بلدٍ ينفضّ عنهم منذ سنين طويلة. ذنبهم/ذنبهنّ أنّ الجغرافيا التي يعيشون فيها بقعةٌ لمن يُطارده وحشٌ متفلّت من كلّ قيد ومُحاسَبة. ذنبهم/ذنبهنّ أنّ بقاءً يظنّونه قدراً أفضل من خروجٍ يعجزون عن تحقيقه، أو يرفضونه. ذنبهم/ذنبهنّ أنْ لا دربَ ينفلش أمام خلاصٍ مُرتجى، ولا منفذاً يُتيح لهم/لهنّ تنفّساً طبيعياً.
فهل تُصبح تلك الليلة، المفصلية في مَسَاري حربَي الإبادة والإسناد، لحظة تُستَغلّ سينمائياً (بالمعنيين الجمالي والدرامي لمفردة الاستغلال)، ليُصنع منها ما يوثِّق ويكشف ويروي ويُعرِّي، وينفتح على كلّ سؤال، ويعاين كلّ جُرحٍ، ويتواصل مع كلّ ألمٍ، ويمنح القَلِق حقَّ البوح بقلقه علناً، إزاء كلّ شيءٍ وكلّ أحدٍ؟ هل تتمكّن الكاميرا السينمائية من إيجاد معادِلٍ أو أكثر لحاصلٍ يتخطّى، بمسافات بعيدة للغاية، الفعل السينمائي، بكلّ ما في الحاصل من دمار وخراب، ومن جثث وأشلاء، ومن خيبات وأوهام، ومن مصائب وأحلامٍ مبتورة؟ أمّا الكاميرا التلفزيونية، فعاملةٌ يومياً على توثيقٍ وكشفٍ، مطلوبَين بشدّة، لأنّهما أساسيّان في تشكيل ذاكرة ووعي، وفي كتابة تاريخٍ وحكاية. أمّا الكاميرا الفوتوغرافية، فتواكب دقائق الحاصل، والحاصل سريعٌ وصادم.
لكنْ، لماذا تُزجّ السينما في الأكبر منها، والأكبر منها حاصلٌ مراراً، رغم أنّها متفوّقةٌ، مراراً أيضاً، في استباقٍ وإنارةٍ على حاصل وأكثر؟ لأنّ السينما حاضرةٌ في تفاصيل عيشٍ، وإنْ يُحيطه موتٌ وعتمةٌ وانسداد أفق. لأنّ السينما فعلٌ يوميّ، غير متحرّر من واقع، بتناقضاته وانفعالات ناسه ومشاغلهم/مشاغلهنّ. لأنّ السينما حياة، رغم مراراتٍ وأحقادٍ وغضبٍ وخوفٍ وآمالٍ. لأنّ السينما ملتصقةٌ بكلّ شيءٍ وبكلّ أحدٍ، ودائماً.
أُيفيد ذكر أسماء وعناوين؟ في لحظةٍ لبنانية كهذه، تُرافق لحظة فلسطينية تبلغ ألف عامٍ وحكاية، يُصبح ذِكْرٌ كهذا ترفاً وادّعاءً. ما يُعاش كافٍ لتبيان عجزٍ فادحٍ عن رؤية الفرق بين واقعٍ ومتخيّل، مع أنّ الحاصل أوضح من كلّ متخيّل، وأعنف من كلّ واقع. والفرق بين واقع ومتخيّل أوهن من أنْ يصمد أمام وحشية الواقع وهشاشة المتخيّل في ابتكار معادل بصريّ للواقع، ولوحشيته أيضاً.
وأيضاً: أتُفيد مقالةٌ كهذه، في لحظةٍ كهذه (كما في كلّ لحظةٍ أخرى مشابهة لها)، أمْ أنّها تلبيةٌ لمهنةٍ/وظيفة، وانعكاس لشيء من ذاتٍ وقلق، ورسمٌ لمَلمَح، واحد على الأقلّ، من ملامح خوفٍ وخيبة؟ ألن يكون الحاصل، لبنانياً الآن وفلسطينياً منذ ألف عامٍ وحكاية، أكبر من مقالةٍ، تُلبّي مهنة/وظيفة؟
لذا، أشعر أنّ كلّ ما يُكتَب ويُقال ويُصوَّر يبقى أعجز من أنْ يبلغ حدّاً أدنى من هذا الوجع العظيم.