أمام حفرة هائلة خارج البلدة، يقف عَمْرو يسأل القاضية عن إمكانية تلبية دعوة المحافظ إلى العشاء. تبتسم ابتسامة ذات مغزى، وتردّ عليه أنْ لا بأس بهذا، فالبلدة صغيرة، والجميع يعلمون كلَّ شيء. كأنّها تحذّر، لكنّها لا تمنع. كأنّها تقول: إفعلْ، ولكنْ. ابتسامة غامضة، إنّما دالّة على معرفة ببواطن ومخاطر. عَمْرو استلم منصبه، كوكيل نيابة، في مدينة صغيرة في الأناضول. يخشى انزلاقاً، وكلّ ما يمكن أنْ يعيق تصميماً على ثباتٍ في وجه الفساد. إنّه تجسيدٌ لهؤلاء الذين لا يزالون يعتقدون أنّه بالإمكان فعل شيء، فيما كلّ شيء منهار حولهم.
شخصيةٌ جذّابة، رسمها المخرج التركي أمين ألبر في "أيام حارقة". بل إنّها كثيرة الجاذبية في ردودها الذكية، وحذرها، وإصرارها على المجابهة، وقوّتها، وأيضاً ضعفها. للفيلم خلفية سياسية اجتماعية. هذا ليس جديداً أو استثنائياً. الاستثنائي في أسلوب المعالجة، ورسم صراع فرديّ، وحرب مواجهة مجتمع لا يُترَك فيه الفرد النزيه، ولا يُعترف به إلاّ كجزءٍ من جماعة، يُساق كما تُساق، وعليه الخضوع لقوانين الأقوى، وشرائعه المتسلّطة، ولا خروج له عن إرادته، أو عن سلوك عامٍ لقَطيعه.
في حبكةٍ تعجّ بالتشويق، وتجعله فيلمَ إثارة بامتياز، يرسم أمين ألبر، في "أيام حارقة" 2022)) هذا الفرد بكلّ فرادته، وهؤلاء المتسلّطين بكلّ خبثهم، وتلك الجموع بكلّ سوقيتها وانسياقها وخضوعها وثورتها في الاتجاه الخطأ. ألبر مخرج تركي، يعرف تماماً كيف يجعل لقصّة بسيطة محلية أبعاداً عالمية، وكيف يمكن لموظّف في مكان منعزل في الأطراف، وبعيد عن مركز الحدث، أنْ يكون ممثلاً لحميع هؤلاء، المنزرعة في دواخلهم بذور المقاومة، ورغبة التغيير، والوقوف في وجه الفساد، ولو بمفردهم وإمكاناتهم الضيئلة، أمام قوى خبيثة ومتحايلة ومتلاعبة ومناوِرة.
عَمرو لن يُترك ليمارس منصبه كما يجب، بل كما عليه أنْ يفعل، بناءً على سائدٍ، قرّره محافظ مرتشٍ، وابن له أشرّ منه، كأنّه تجسيدٌ لجيل أسوأ من آبائه، وأكثر فساداً وجرأة في التعبير عن الفساد، من دون اكتراثٍ بالمعايير والأساليب المتعارف عليها. إنّه يجمع كلّ الموبقات.
قُسّم "أيام حارقة" إلى 4 أجزاء، تُعبّر عن تطوّرات مليئة بالإثارة، تتوالى فيها المفاجآت. تدور الأحداث في البلدة وخارجها. في الداخل، تسود عتمةٌ كلَّ مكان وسلوك. نورٌ ينقطع، وماء يعزّ، وجرذان تسرح. الخارج ضوءٌ ساطع، ونجاة مؤقّتة من حرّ كاتم للنفوس، ومؤمرات تحاك، وطبيعة صحراوية، وبحيرة تلتهم مرتاديها غير العارفين بخطرها (كناية واضحة عن وكيل شاب غير عارفٍ بخطر الأمكنة).
كلّ شيء يحتمل تأويلات عدّة. في الجزء الأول، "الوليمة"، تظهر الأجواء والشخصيات الرئيسية في دعوة العشاء. الأب السياسي، الساعي إلى إعادة انتخابه، والمتوازن والمحافظ على حدّ أدنى من الرزانة، في مقابل الابن شاهين (إيرول بابا أوغلو)، بعينيه الملتمعتين شرراً وشهوة وخبثاً وثقةً بقدرة على تدمير كلّ من يعيق إعادة الانتخاب، كالوكيل عَمرو (صلاح الدين بشالي في أداء لافت للانتباه) مثلاً. هناك أيضاً أزلامه من السكّان، بينهم المحامي. المعارضة متمثلة بالصحافي والمعارض السياسي الشاب الوسيم مراد (إكين كوج)، غامض النوايا. ينسحب المحافظ لانشغاله، في إشارة إلى جهوده، ليلاً نهاراً، في خدمة ناسه وشعبه (!). يُستَفرَد بالوكيل في سهرة شبابية، عامرة بالشراب والمؤامرات المدروسة، للإيقاع به، ومنها حادثة اغتصاب فتاة ساذجة غجرية راقصة.
أفضل ما يبينه الفيلم، في هذه المشاهد، وسائل المتنفّذين والمسؤولين، التي لا حصر لها، للإيقاع بضحاياهم. ساعد التعبير عن ذلك خلق أجواء تثير قلقاً، كاستخدامٍ مُكثّف للعتمة (الليل وانقطاع الكهرباء)، وموسيقى تصويرية صاخبة، تنبئ بحدثٍ ما مقبل، يُساهم مع تخدير الوكيل في إخفاء الصورة الحقيقية لما جرى.
لا شيء مُصرّحا عنه بوضوح. فالتأويل سيد المواقف والحوارات. كلّ حوار يحتمل احتمالات عدّة: من يتلاعب بمن: الصحافي، أم الابن، أم الوكيل؟ إن تكن هناك مبالغة في استخدام هذه العناصر، أحياناً، فإنّها لم تطغَ على قوّة الفيلم، في هذا السيناريو الشبيه بالمتاهة (كتابة ألبر)، الذي يستند إلى غموضٍ وتساؤلات تتجسّد في ذكاء الحوار، ويُشكّل متعة خالصة في طريقة الردّ والردّ المضاد، وإلى الإيحاءات أيضاً، من دون اللجوء إلى صريح القول (اتهامات مبطّنة لعَمرو بالمثليّة، وتهديد بفشل مؤكّد في المهمة). مع المثلية، تعامل ألبر بذكاء، مُستخدماً إشارات وأحداثاً تحتمل أوجهاً عدّة. لكنّ ذلك لم يفت وزارة الثقافة التركية، التي طالبته بإعادة جزء من التمويل منحته إياه، وربما فعل.
لكنّ الأهم في "أيام حارقة" تصويره مراحل مجابهة الفرد للفساد: إصرار أولي ومبدئي، ثم يأس وخوف، فمحاولات مقاومة مُجدّداً، رغم كلّ الخسائر. مع تسليطه الضوء على الفساد، اهتم أمين ألبر بالسياسة الشعبوية، التي تتلاعب بالشعب. في تصويره الجموع الهادرة في مشاهد عدّة، بَيّن خطورة انقيادها التي تزيح كلّ أمل في التغيير، وأعطى للفيلم أبعاداً مقلقة. لجأ مراراً إلى اللقطات العلويّة في تصويرها، كأنّ أيادي تحرّك هذه الجماهير التي تُقاد، في مطاردتها الخنازير البرية في أزقّة البلدة، أو في احتفالها بنصر المحافظ مجدّداً، أو في احتجاجها على الوكيل، وعلى ما تظنه من مثليّته، وموقفه الممانع لسياسة المحافظ في استغلال المياه الجوفية. تلك الجماهير أُفهِمَت، وصدّقت، أنّ الوكيل، الذي كانت مهمته الرئيسية التحقيق في الحفر الهائلة التي حدثت في البلدة وخارجها، نتيجة الاستغلال السيئ للمياه الجوفية، سيمنع عنهم الماء، وأنّه عدوّهم. صوّبوا أسلحتهم وشراستهم في الاتجاه الخطأ.
"أيام حارقة" مؤثّر وساحر ومثير للقلق. لا يكتفي برسالته السياسية، فبراعته السينمائية، المتجلّية في التصوير والحوار والموسيقى، والتحكّم الدقيق بأداء الممثلين، لا سيما عمرو، تقدّم فيلماً ممتعاً، حتّى لمن يعرف الأحداث تماماً من مُشاهَدة سابقة.