"أنا لو مَحلّك، كِنْتْ بْقيتْ تحت" (لو كنتُ مكانك، لبقيتُ تحت). يقول جنديّ الحاجز للغطّاس، وهو يلقي نظرة فاحصة على محتويات سيارته، ومنها أجهزة غطس.
بيروت 2015. ابتُليت المدينة بسلسلة هجمات بسيارات مفخّخة. آلان (آلان نجم)، الذي سَئِم وظيفته مندوبَ مبيعات، قرّر إدارة ظهره لكلّ ما يحيط به من جنون. بحث عن طريقة مغايرة للعيش. أراد تكريس نفسه للغوص، شغفه الكبير، فأصبح سريعاً مهووساً بتحطيم الرقم القياسي العالمي للغوص.
يحمل عنوان الفيلم رمزاً للمدينة التي يعيش فيها آلان، ويريد الهرب منها: "تحت السموات والأرض". فيلمٌ للّبناني الفرنسي روي عريضة (1985)، يُحيل أيضاً على الوزن بالمعنى المجازي، وعلى ثقل الطموحات والحياة، وكلّ ما يسحق من أعباءٍ، نفرضها على أنفسنا.
بناء الفيلم قائم على مرحلتين متمايزتين في حياة آلان: أولى عن يومياته. حياة عادية، وعمل مُملّ، ومَهام للإقناع بمشاريع واستثمارات. يؤدّي آلان هذا بمثابرة مفروضة على الذات، وبانغماس مفتعل، وبصدقٍ لا يتجاوز الظاهر. في هذا العادي اليومي، لحظات استثنائية، يغوص فيها عميقاً تحت الماء، وتظلّ بالنسبة إليه، وإنْ لم يصادفه شيء خلالها، أفضل ممّا يراه في حياته فوق سطحها، من أحلامٍ تتكسّر على الأرض.
لحظات لا تعدو كونها عابرة. تطول لتغدو الفاعل الأكبر، بل الوحيد، في المرحلة الثانية. كأنّه يصعب على العادي مُجاورة الاستثنائي. بعد لقطات طويلة للمدينة، ولأبنيتها وشوارعها، يصير البحر محطّ اهتمام العدسة: في زرقته وفراغه الموحش وسكونه، وفي كلّ ما يناقض هذا الاكتظاظ المديني الحيوي، وذاك الضجيج المُلحّ، وتلك الألوان المغبرّة لمبانٍ إسمنتية قبيحة. هناك دائماً، في المكانين وفي مختلف اللقطات، وحدة في الإحساس بضغط الزمن، وبتوتّر، وبثقل أجواء المدينة ومياه البحر. ضغط الحياة، وضغط الماء.
في المرحلة الثانية، يتحرّر الفيلم من أجواء مكانية مكتظّة، ومن صبغة وثائقية. ينطلق في سردٍ روائي، يتيح حرية أكبر في التعامل مع شخصياته، الرئيسية خصوصاً. آلان يُجسّد دوره الحقيقي في الحياة كغطّاس محترف. فكرة الفيلم جاءت من لقاء المخرج (وهو غطّاس بدوره) معه. البطل في الثلاثينيات من عمره، يقرّر التخلّي عن المدينة، وعمّا تمثّله من عمل مكروه وحياة رتيبة، لينغمس بكلّيته في ما يشغله حقاً ويثير اهتمامه، حيث ينسى كلّ شيء، ويهرب من فوضى وعبث وخطر متجسّدة كلّها بحروبٍ وتفجيرات. انغماسٌ في عالم ما تحت الماء، موازٍ لعالم يعيش خارجه، حيث الوحدة والعزلة والمخاطر. تحت سطح الماء، هناك مفاجآت ومخاطر ليست أقلّ مفاجأة وخطراً منها. البطل يهرب من حياة عبثية، لكنّه يريد لهروبه معنى أنْ يكون إنجازاً، وأنْ يجد فيه بعض إجابات، وأنْ يبحث وحده ـ في هذه العزلة المختارة في مياه البحر ـ عن إجابات، وعن معنى وجوده وكينونته.
حدّد آلان هدفاً: تجاوز 300 متر في العمق. بمساندة زوجته الفرنسية، يبدأ التدرّب مع أصدقاء وطبيب. بعد محاولات عدّة، يتخلّى عن الحلم. يتناول روي عريضة مفهومين في المعالجة: تحديد الهدف، والتخلّي عنه. بعد تخلّي أحد أصدقاء آلان عن الغطس معه، لإدراكه أنّ قدراته الحقيقية لا تسمح له بإتمام المغامرة، تُطرح تساؤلات على آلان: هل يُكمِل؟ هل للمرء حقّ التخلّي، في مجتمع يحكم على أفراده بالنتائج، وبما يتحقّق في النهاية؟ هل هناك خروج قبل الأوان من تجربة مسموح بها، لا يكون المرء فيه رابحاً أو خاسراً؟ يكفي خوض التجربة، ففي هذا شجاعة وتصميم. كلّها تساؤلات تدور في رأس آلان، وتجعله التجربة يكتشف قيمة الحياة والأصدقاء والحبيبة، وقبل كلّ شيء يكتشف ذاته.
الفيلم هو هذه التساؤلات. هناك تلميح بقناعاتٍ عن المهمّ والأهمّ في حياة إنسان معيّن. ليس الفيلم عن الشغف بشيء ما، وتحقيق الهدف أو الغاية، بل القول بكل تواضع إنّ الطريق إلى الهدف هو المهمّ. لا يقول هذا مباشرةً، ولا يثرثر ويعطي دروساً، بل يجعل المُشاهد يدركه من الصورة وردود الفعل، ومن جمل قصيرة وحدث معبّر، ومن تعابير ترتسم على الوجوه في لقطات مقرّبة جداً. بهذا، يُؤدّي آلان نجم، بتميّز، دوراً صعباً، يعتمد على الإيحاء بدواخل متشكّكة.
الفيلم يُقلق ويوَتِّر. تساهم في خلق هذا الشعور موسيقى تصويرية لكريم دويدي، وتصوير تحت الماء دقائق طويلة في القسم الثاني، ما يكرّس إحساساً بالتوتر وضغط الماء ووحشة البحر. أنْ تكون مع نفسك وحيداً تحت الماء ليس، في النهاية، إلا ثقلاً أشدّ وطأة وأكثر فعالية في تثمين العلاقة مع الآخر، والاقتراب ممن نحبّ ونُقدّر وجودهم في حياتنا. الفيلم يطرح أسئلة وجودية على نحو مشوّق، بعفوية وصدق، ومن دون ادّعاءات. كتابة سينمائية (روي عريضة) وإخراج متوائمان في تحويل فكرةٍ إلى فيلم، وفي الانتقال من الوثائقي (توثيق أحداث حياة متكرّرة لغطّاس ماهر) إلى الروائي، بتصوير المغامرة، كأنّه يقول إنّ كلّ ما يحدث الآن يمسُّ أيّاً كان، وليس فقط الغطّاس آلان نجم وفريقه.
"تحت السماوات والأرض" لا يحدِّد بلداً، ولا يشير إلى بيروت. هناك إذاعة في السيارة، وذكر أسماء مناطق تقع فيها تفجيرات. لوحةٌ لمدينة تحت وطأة الإسمنت، فيها تُقتل الأحلام. مبانيها تخنق شوارعها وسكّانها، لكنّها قد تكون ضحيتهم. الفيلم، المعروض في الدورة الـ36 (9 ـ 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان وارسو الدولي"، يثير شيئاً من بلبلة لدى مُشاهد أجنبي، لأنّ تصنيفَه فيلمٌ فرنسي. عنوانه وأسماء المشاركين فيه مكتوبة بالعربية، وتسود فيه لغة، يمكن القول إنّها "عجيبة" لمن لا يعرف اللهجة اللبنانية، بل حتى لهؤلاء المعتادين إياها. خليطٌ من العربية (اللبنانية المحكية) والفرنسية والإنكليزية: الفرنسية فقط بين آلان وزوجته، والعربية مع نشرات الأخبار.
الوضع مُربك بعض الشيء لمن لا يعرف أنّ الفيلمَ لبناني أيضاً. لكنّ هذا لا يؤثّر بتلقّي أول فيلم روائي طويل لمخرجه، لتعلّقه بالإنسان، في أيّ مكان.