يبدو أنّ الـ 46 عاماً التي فصلت بين رحيل سيدة الغناء العربي، أم كلثوم، وبين وفاة السيدة جيهان، قرينة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، لم تكن كافية لتمحو من ذاكرة معاصري الأحداث، أو حتى الأجيال الجديدة من الشباب، حقيقة الصراع الكبير والمكتوم الذي دار بين السيدتين. فحملت تدوينات كثيرة على مواقع التواصل، مقارنة مشروعة بين جنازة "الست" وجانزة "جي جي" كما كان يناديها زوجها الرئيس.
"بيننا وبينهم الجنائز"... عبارة انتشرت في تدوينات وتعليقات مستخدمي مواقع التواصل، وهم يتابعون وقائع الجنازة العسكرية لحرم الرئيس الراحل. وهذه العبارة، التي تنسب للإمام أحمد بن حنبل، تكاد تختصر الصراع الكبير الذي أدارته جيهان ضد أم كلثوم طوال السنوات الأربع الأخيرة من عمر مطربة العرب. صراع اتسم من جانب جيهان بكلّ أشكال التسلط، والتحرر من "قيم العائلة" و"العيب"... وكلّها تعبيرات صكها الرئيس "المؤمن" وعمل على دورانها في الحياة المصرية، سياسياً واجتماعياً.
وحقيقة هذا الصراع، وجوهره الأساس، لا يمكن إدراكهما إلّا من خلال إدراك موقع حرم رئيس الجمهورية في الحياة السياسية، قبل أن يتولى السادات السلطة.
ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، لم يكن لزوجته أي دور في الحياة السياسية، إلّا استثناءات يفرضها البروتوكول؛ لذلك، ظلّ الشعب المصري في معظمه يحمل تقديراً كبيراً للسيدة تحية كاظم، وحتى هؤلاء الذين لا يحبون ناصر، أو يختلفون مع طريقة حكمه، لم يجد أحد منهم كلمة سوء يمكن أن تقال في حق زوجته... بل ربما زادت مكانتها مع انتشار الأخبار عن سوء معاملتها، واضطرارها عدة مرات أن تفعل كما يفعل أكثر المصريين البسطاء، فتلجأ إلى ضريح الإمام الحسين شاكية باكية.
بعد رحيل عبد الناصر، وبمجرد أن تولى السادات منصب رئيس الجمهورية، منح زوجته جيهان صفوت لقب "سيدة مصر الأولى". وربما كان هذا التصرف أول مظاهر التوجه الساداتي نحو الغرب عموماً، والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً. فاللقب غريب جداً على الثقافة المصرية، ولم يعرف حتى في العهد الملكي، ولا بعد ثورة يوليو عام 1952.
وكان من آثار هذا اللقب أنّ الدولة المصرية كلّها، صارت تتعامل مع حرم الرئيس تعاملاً مختلفاً عن المعتاد. ومع الوقت، كان نفوذ جيهان يزداد، وبدأ كبار المسؤولين يشعرون بسطوتها، ولا سيما أنّها لم تدخر جهداً لتصديق هذا الشعور بالسطوة والنفوذ.
ومن الواضح أنّ لقب "سيدة مصر الأولى" لم يكن مجرد وصف بروتوكولي، لكنّه أصبح شعوراً طاغياً يملأ عقل جيهان صفوت وقلبها. ووجدت نفسها -عملياً- فوق كل الشخصيات الكبيرة في البلد، رجالاً ونساء، لا ينافسها أحد، ولا يشاركها في هذه المكانة أحد.. إلّا تلك العجوز القابعة في فيلتها بالزمالك... إلّا أم كلثوم... الملقبة منذ منتصف الأربعينيات بصاحبة العصمة... فكانت أول وآخر امرأة من خارج الأسرة المالكة تحمل هذا اللقب... وقد زالت الألقاب بعد سقوط حكم الأسرة العلوية، لكنّ الشعب قرر استبقاء اللقب لأم كلثوم فقط... مع ألقابها الحقيقية التي نالتها بعبقريتها الفنية، وصوتها الذي امتلك الوجدان العربي خمسين عاماً.
شعرت جيهان صفوت، أنّ هناك من ينافسها على "الأولية"... بل شعرت أنّ أوليتها مصطنعة... موقوتة... مرتهنة بكونها قرينة رئيس الدولة... لكنّ عجوز الزمالك ملكة حقيقية. لا تجلس على عرش مصر فقط... بل على عرش البلاد العربية من الموصل إلى طنجة. يمتد نفوذ صوتها إلى أعماق القرى والأرياف... يستقبلها الرؤساء والملوك، وتحظى بتكريم رسمي وشعبي لم ينله أحد. وكلّ ذلك، لم يكن يهدد مكانة جيهان في الحقيقة والواقع... وإنّما كان يصطدم مع شعورها الزائف بالفوقية والأولية. حتى بلغ بها الأمر أنّها لم تكن تترك مجلساً خاصاً، من دون أن تذكّر الحاضرين بأنّ مصر الآن "فيها سيدة أولى واحدة فقط... هي أنا... جيهان السادات".
وقد بدت علاقة الرئيس السادات وأسرته بالسيدة أم كلثوم جافة ضعيفة، تفتقد إلى المتانة والدفء الذي اعتادته من الرئيس عبد الناصر وأسرته، حيث الاتصالات الدائمة والتزاور. وحرص الرئيس على حضور حفلاتها، أو الاستماع إلى الإذاعة ليلة الحفل، والاستمرار إلى جانب "الراديو" إلى أن نتنهي السيدة من وصلتها الثالثة قبيل الفجر.
توقف السادات عن حضور محافل أم كلثوم. وترك زوجته تتفنن في هز مكانة السيدة الكبيرة، والتقليل من شأنها... كان الأمر أكثر تعقيداً بكثير من أن يكون مجرد موقف عابر، أو ضيق عبرت عنه جيهان عندما سمعت أم كلثوم تنادي الرئيس السادات بـ"أبو الأنوار". فهذه الإشاعة حتى وإن صحت، لا يمكن أن تفسر حالة العداء التي حملتها جيهان صفوت لشخص أم كلثوم، ومكانتها، وفنها، وتاريخها... وألقابها.
ومن أهم مظاهر الحرب "الجيهانية" على كوكب الغناء، عرقلة مشروعها الضخم الذي عرف باسم "دار أم كلثوم للخير" فنشاط السيدة الخيري كان آخذاً في الاتساع عقب حرب يونيو/حزيران 1967، وفي عام 1971، قرّرت مع بعض صديقاتها المقربات، إطلاق الجمعية الخيرية من دون تسجيل. وفي أوائل عام 1973، وضعت السيدة ومساعدوها الترتيبات النهائية لإطلاق المشروع، وحددوا شهر يونيو من العام نفسه لوضع حجر الأساس للجمعية. ويرى حنفي المحلاوي في كتابه "عبد الناصر وأم كلثوم" أنّ هذا النشاط الخيري المكثف لفت انتباه السادات وزوجته، و"تصوراه طريقاً جديداً لغزو قلوب المصريين بعدما غزتهم بغنائها... وعلى الفور بدأت الحرب الخفية ضد المشروع بهدف القضاء عليه".
في أغسطس/آب عام 1973، وضعت جيهان السادات، حجر الأساس لجمعية الوفاء والأمل، لإقامة مدينة على مساحة 270 فداناً في صحراء مدينة نصر. وحرصت جيهان أن تكون تفاصيل المشروع مقابلة لتفاصيل مشروع أم كلثوم. وبينما نالت حرم الرئيس كل أشكال التسهيلات والدعم للانطلاق بمشروعها، وجدت أم كلثوم في كل خطوة عقبة كؤود، وبطريقة متواترة ومريبة تدل على أنّ الإفشال متعمد.
وبالرغم من قسوة هذه التصرفات، فإنّنا يمكن أن نردها جميعا إلى حالة الحقد الدفين التي حملتها جيهان تجاه السيدة الكبيرة، وشعور حرم الرئيس الدائم أنها لن تكون "السيدة الأولى" حقاً إلا إذا فقدت أم كلثوم مكانتها الجماهيرية. وهنا انتقلت التصرفات والأفكار إلى مرحلة أخرى، لا يمكن تصنيفها إلا تحت بند الجنون والأوهام السوداء، فقد حاولت جيهان وبمساندة كبيرة من الرئيس خلق بديل فني يحل محل كوكب الشرق. وطلبت جيهان من متخصصين في الغناء والموسيقى أن يقدموا لها اقتراحات من الأصوات النسائية. فكان الاقتراح الأول هو السوبرانو عفاف راضي... لكن، لم يحتج المهتمون بالأمر وقتاً طويلاً لإدراك استحالة أن يكون صوت عفاف راضي النحيف، وغناؤها القائم على التكنيكات الأوبرالية الغربية، بديلاً عن السيدة صاحبة الصوت المشيخي الجبار.
ثم جاء المقترح الثاني، يدعو لتهئية إفراج محمود خليل الحصري، التي اشتهرت لاحقاً باسم ياسمين الخيام... فصوتها شرقي، وفيه شيء من الأداء المشيخي الذي تعلمته من والدها المقرئ الكبير الشيخ محمود الحصري. احتاج الأمر إلى تدخل الرئيس السادات بنفسه، لإقناع الوالد بترك ابنته تدخل ميدان الغناء... وقد كان.
أصبحت ياسمين الخيام واجباً مفروضاً على الإذاعة والتلفزيون بصورة غير اعتيادية، وفي الوقت نفسه تم تقليص المساحة الإذاعية المخصصة لسيدة الغناء. وبلغ هذا التقليص حداً ظاهراً ومزعجاً. وفي هذه الأثناء كان المرض يشتد على السيدة الكبيرة، وحالتها النفسية آخذة في التدهور. لكنّها لم تستسلم استسلاماً كاملاً، فكانت كلّ فترة تعلن عن تحديد موعد لحفلها المقبل، فكانت الدنيا تنقلب في الصحافة والإعلام داخل مصر وخارجها. كأنّها تقول لهم: أنا هنا... ما زلت قادرة على إزعاجكم.
ومن الغريب أنّ هذا الصراع كان معلوماً لمصر كلّها، سياسيين ومسؤولين وإعلاميين وكتّابا وصحافيين. لكنّه رغم ذلك صراع غير معلن، ولا يستطيع أحد أن يمسك عليه دليلاً قاطعاً.
مر العامان الأخيران في حياة أم كلثوم، من دون أن تتمكن من اعتلاء المسرح أو تقديم حفلها الشهري. وبدا لكلّ متابعي المشهد أنّ السيدة الكبيرة هزمت، وأنّ جيهان صفوت، ودولة السادات قد انتصرت. وشعرت حرم الرئيس أنّ الجو قد خلا لها تماماً. الآن هي السيدة الأولى رسمياً وفعلياً. لا ينافسها أحد. وتهامس المنافقون في ما بينهم أنّ الجماهير نسيت أم كلثوم. أوقات بث أغانيها تتقلص إلّا من دقائق تقطع الألسنة وتدفع الاتهامات. كان لسان حال جيهان السادات يقول: الآن صرت ملكة وحيدة. لكنّ كلّ هذه الجهود وكلّ هذه الحرب وكل ما بناه نظام السادات ضد السيدة انهار في لحظة، حينما أعلنت وسائل الإعلام دخول أم كلثوم إلى المستشفى في حالة حرجة.
ورغماً عن قرينة الرئيس، وربما رغماً عن الرئيس نفسه، لم تستطع أجهزة الدولة إلّا أن تدور مع الحالة الشعبية العاتية... التقرير الطبي اليومي عن حالة أم كلثوم يتصدر عناوين الصحف، ويتقدم أحياناً على أخبار رئيس الدولة. الاستفسارات الرسمية من الملوك والرؤساء العرب لا تنقطع. الصحافيون العرب والأجانب يتوافدون على القاهرة... والجماهير تحبس أنفاسها، وعلي أمين يكتب مقاله التاريخي عن أم كلثوم فيُبكي كلّ قراء عموده.
ثم جاء الأجل، وكان الإعلان ببيان رسمي يذيعه رئيس الوزراء، بعدما انضمت قناتا التلفزيون إلى جميع الإذاعات. ليعمّ الحزن كلّ أرجاء مصر وكلّ مدينة وقرية عربية. وأدركت الأجهزة الأمنية أنّ الحدث سيكون ضخماً جداً. ومع كلّ ساعة تمر كانت الدولة المصرية تتأكد من أنّها ستكون بصدد إحدى أكبر الجنائز في التاريخ. ظلت وزارة الداخلية توجه نداءات للجماهير، بالتزام الهدوء والنظام يوم التشييع. ثم تحولت النداءات إلى رجاء وتوسلات. توسلات بحب السيدة... إن كنتم تحبون أم كلثوم حقاً فساعدونا على النظام.
تعامل الشعب المصري والعربي مع أم كلثوم باعتبارها نفحة سماوية، وصوتاً ربانياً... بات كفنها في المشهد الحسيني ليلتين، وأرسلت السعودية طائرة تحمل ماء زمزم وأجود أنواع الطيب والبخور لأجل الغسل والتكفين. وحاول عشرة آلاف ضابط وجندي أن يفرضوا النظام. لكنّ الملايين الزاحفة حطمت كلّ ترتيب. وحملت الجثمان للصلاة عليه مرة أخرى في جامع الإمام الحسين، بعد الصلاة الرسمية في مسجد عمر مكرم. أفردت صحف العالم مساحات واسعة لتغطية الحدث.
هذه أكبر جنازة لفنان في التاريخ. انتصرت أم كلثوم بكلّ معنى الكلمة، سحقت من حاولوا إهانتها، وأزاحت من التاريخ من ظنّ أن يكون بديلاً لها. انهزمت السلطة، واضطر السادات إلى منح اسم السيدة الكبيرة قلادة النيل العظمى، أعلى وسام مصري... ولم ينله فنان غيرها حتى اليوم.
ولم يكن غريباً أن تستعيد الذاكرة تلك الأحداث، وهي تشاهد جنازة السيدة جيهان السادات. لا يكاد يبلغ مشيعوها خمسين شخصاً... ولولا حضور رئيس الدولة ما شعر بها أحد... فحُق لحزب أم كلثوم أن يتذكروا الكلمة الخالدة: بيننا وبينكم الجنائز.