"أميركيات في باريس"... منفيّات رسمن ملامح مدينة الأنوار

29 يونيو 2024
لوحة للفنانة آن إستل رايس (موقع المعرض)
+ الخط -
اظهر الملخص
- نيويورك تعد اليوم مركزاً للفن المعاصر كما كانت باريس في القرن العشرين، حيث استقطبت باريس الفنانين من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الأميركيون الباحثون عن حرية إبداعية، خاصة النساء اللواتي وجدن فيها فرصة للتحرر من القيود الاجتماعية والعنصرية.
- المعرض "منفيات لامعات: أميركيات في باريس، 1900–1939" يبرز دور النساء الأميركيات في تجاوز القيود المجتمعية بباريس، عرضاً لأعمال أكثر من خمسين امرأة أثرن في الثقافة المعاصرة واستمتعن بحريات غير متاحة في الولايات المتحدة.
- الفنانات الأميركيات في باريس أسهمن في مجالات متعددة مثل الرقص، المسرح، والأدب، مساهماتهن في تطوير الأدب الحديث والفنون بشكل عام، ومن بينهن إثيل مارس، غيرترود ويتني، وآن إستل رايس، وسيلفيا بيتش التي أسست مكتبة شيكسبير، مما فتح أفاقاً جديدة للتجريب الفني والأدبي.

لمدينة نيويورك مكانة مرموقة في عالم الفن، فهي الوجهة المفضلة للفنانين الطامحين إلى الاشتباك مع الاتجاهات المعاصرة، وهي المدينة التي يمكن من خلالها الانطلاق إلى رحاب العالمية، ويصفها بعضهم بأنها مدينة الفُرص وعاصمة الفن المُعاصر. هذه المكانة التي تحتلها نيويورك اليوم في عالم الفنون، تمتعت بها العاصمة الفرنسية في مطلع القرن العشرين، ليس في مجال الفنون البصرية فحسب، بل في كل مجالات الإبداع تقريباً.

كانت باريس تحتل قلب الحركة الفنية والثقافية العالمية، إذ كانت مركزاً مهماً للتحولات الكبرى ومعظم الحركات الحداثية في الفنون، من الرسم والنحت إلى الرقص والمسرح والموسيقى والأزياء، وحتى الأدب والكتابة. هذه المكانة التي حظيت بها باريس في مطلع القرن الماضي، جعلتها وجهة للمبدعين من كل أنحاء العالم، حتى من الولايات المتحدة الأميركية. لجأ الأميركيون إلى العاصمة الفرنسية هرباً من الأجواء الخانقة للإبداع في بلادهم. وقد كان للمرأة على نحو خاص نصيب لا بأس به من هذه الهجرات العكسية، إذ كانت النساء الأميركيات الأكثر تأثراً بهذه الأجواء المقيدة للإبداع، فلم تكن قناعات التحرر السائدة كما هي اليوم. كما وجدت النساء الأميركيات ذوات البشرة السوداء في باريس أيضاً متنفساً لهن بعيداً عن المجتمع الأميركي الذي لم يكن قد تخلص بعد من أثر القوانين العنصرية.

معرض "منفيات لامعات: أميركيات في باريس، 1900–1939" الذي يستضيفه متحف الصورة في واشنطن حتى 23 فبراير/شباط المقبل، يستكشف جانباً من هذا العصر الذي كانت فيه باريس وجهة أساسية للمبدعين الأميركيين في كل مجال.

يركز المعرض هنا على النساء الأميركيات تحديداً، اللاتي فضلن الهجرة إلى فرنسا لتحقيق أحلامهن. يضم المعرض صوراً شخصية ومنحوتات وأعمالا فنية لأكثر من خمسين سيدة أميركية كانت باريس سبباً في نجاحهن. بعض هؤلاء النساء اشتبكن بقوة مع الحركات الإبداعية الناشئة، وكنّ جزءاً رئيسياً من ضمن مكوناتها. وباعتبارهنّ أجنبيات في باريس، فقد كان من السهل عليهنّ تجاوز التوقعات والقيود المجتمعية لكل من الولايات المتحدة وفرنسا. وقد أتاحت هذه الحرية لهؤلاء النساء ترك بصمتهن على الثقافة المعاصرة، كما تمتعنّ بالحريات والفرص ومناخ التسامح، وهي أشياء لم تكن مُتحققة في الولايات المتحدة.

في ذلك الوقت، كانت الفنون البصرية تمرّ بمنعطف تاريخي بظهور العديد من المدارس والاتجاهات التي انطلقت جميعها من باريس، مثل الوحشية والتكعيبية. تخلّت هذه الاتجاهات عن القواعد القديمة في الممارسة الفنية، وشجّعت على التجريب الجريء، وهو الأمر الذي اجتذب الفنانات الأميركيات المُهاجرات وقتها. تمكنت الفنانات من الوصول مبكراً إلى الأفكار التقدمية، واستفدن من الفرص المتميزة للدراسة والمعارض والمتاحف. ومن خلال تبنيهن للأساليب والاتجاهات الجديدة في فنهن، تحدّين الأعراف ونافسن بقوة في عالم الفنون الباريسي الذي كان يهيمن عليه الرجال. كانت روح التمرد مُسيطرة على هؤلاء النساء، واللاتي كن حريصات على كسر التقاليد، ليس في ممارستهن الفنية فحسب، بل في حياتهن الشخصية أيضاً.

يمكن أن نلمح هذه الروح المتمردة من خلال التطلع إلى صور هؤلاء المُبدعات الشخصية، المرسومة منها أو الفوتوغرافية التي يضمها المعرض. ستطالعنا هنا أسماء لعشرات الفنانات اللاتي كن جزءاً رئيسياً من حركة الفن في باريس وقتها. بين هؤلاء مثلاً، المصورة إثيل مارس، والنحاتة غيرترود ويتني التي تتلمذت على يد أوغست رودان، وهي أيضاً مؤسسة متحف ويتني الشهير في نيويورك. بين هؤلاء المبدعات كذلك، كاثرين ناش رودس، وهي إحدى المساهمات في تأسيس متحف الصورة المُعاصرة. من بين الفنانات الحاضرات أيضاً، آن إستل رايس التي وصفها النقاد بأنها زعيمة الحداثيين في باريس. ومع ذلك، حين عادت رايس إلى الولايات المتحدة عام 1915 قوبلت بفتور في مجتمع الفنون الأميركي. وكتبت الفنانة في مذكراتها قائلة: "في أميركا يبدو أنهم يجدون صعوبة في قبول أن المرأة يمكن أن تكون فنانة". 

لم يقتصر الأمر على الفنون البصرية، فقد هاجر إلى العاصمة الفرنسية العديد من المُبدعات الأميركيات في مجالات أخرى. في باريس، أسست الراقصة المعروفة إيزادورا دنكان فرقتها الأولى، وكان الأميركيون السود والبيض يختلطون بحرية، بعيداً عن سياسات الفصل العنصري في الولايات المتحدة، فبرزت أسماء لأميركيات سوداوات على خشبة المسرح الباريسي، مثل جوزفين بيكر. وفي مجال الكتابة، تبنّى العديد من النساء الأميركيات اتجاهات جديدة ومثيرة في الشعر والنثر، وساعدن في تطوير الأدب الحديث في الولايات المتحدة مثل، غيرترود شتاين. بين هؤلاء النساء أيضاً أسست سيلفيا بيتش مع آخرين مكتبة شيكسبير في باريس، التي تحولت إلى مركز للأدب التقدمي والأقلام الجديدة. وقد ساهمت هذه الكتابات في التصدي للتحيزات الذكورية، وفتحت أفاقاً جديدة للتجريب في اللغة وتقنيات السرد التقليدية.

المساهمون