أمسيات بيروتية عدّة يستعيد الساهرون فيها أياماً قديمة في شارع الحمرا. يتذكّرون، كلٌّ حسب عمره، مرحلة أو حالة أو أحداثاً، في شارعٍ يفقد، منذ سنين مديدة، ألقه اللبناني، المفتوح على الجغرافيا العربية والغرب. الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) تقرض تاريخه وتُشوّه ملامحه شيئاً فشيئاً، والسلم الأهلي الهشّ يُكمِل ما تعجز الحرب عن تغييبه. اغتيال الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري (14 فبراير/ شباط 2005) لحظة إضافية للتحوّلات السلبيّة. الأزمة الاقتصادية، المُحرِّضة على "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، تقضي عليه نهائياً، فالمصارف الموزّعة على جانبيه تتحوّل إلى قلاعٍ حديدية، كتلك المنفلشة فيه بعد "انتفاضة 6 فبراير" (1984)، التي تُعلن بداية انهيارٍ متنوّع الأشكال في الشارع والمدينة والبلد.
أمسيات تدفع إلى مقارنات، تنطلق غالباً من اختفاء نهائي لصالات السينما في شارعٍ معروفٍ، بين الربع الأخير من خمسينيات القرن الـ20 ومنتصف سبعينياته، بكونه القلب النابض لبيروت، سهراً وأزياء وصحافةً وأضواء وأفلاماً ومسرحاً ومكتباتٍ ومقاهيَ ونضالاتٍ. اختفاء الصالات يتوافق واختفاء المعالم الصانِعة لشارع الحمرا ألقه ورونقه واختلافه عن أزقّة وأحياء وفضاءات أخرى في بيروت وخارجها. كلّ شيء مختفٍ، باستثناء "مكتبة أنطوان". بينما "مترو المدينة"، القريب من "مسرح المدينة" الذي يحلّ مكان "سينما سارولا" القديمة، يجهد في إضاءة حيّز صغير في عتمة شارع ومدينة، رغم أزمة وإفلاس وخراب وأوبئة وجرائم وقمع وتدمير.
لا صالات سينمائية ولا قاعات مسرحية. المتواجد القليل من القاعات مُعطّل، ومحاولات إنعاش الشارع فاشلةٌ، فالمنظومة الحاكمة غير معنيّة بغير السياسة، والقطاع الخاص منصرفٌ، في 30 عاماً على الأقل، إلى اشتغالٍ مالي لأرباحٍ مخيفة، تنتهي في إفلاس بلدٍ وأناسٍ. أماكن السهر تختلف كلّياً عن ذاكرة، وأعباء كورونا تقضي على آخر نَفَسٍ يُراد له إنقاذ بعض واقعٍ مرتبك، مبنيّ على تاريخٍ محطّم. للسينما فيه قديماً، كشارع رئيسيّ وأزقّة متفرّعة منه، 11 صالة متحوّلة، بغالبيّتها (فبعضها القليل مغلقة أبوابه الحديدية الصدئة)، إلى محلات تجارية غير قادرة على تحصين حضورها في الشارع من كلّ موت، ولا على إنعاش الشارع بحضورها فيه؛ وإلى فراغٍ يقول، بالصمت والإقفال، انتهاء مرحلة.
أمسيات بيروتية في شارع الحمرا تُصرّ على عيشٍ مؤقّت في عتمة مدينة، بدلاً من عيشٍ دائمٍ في عتمة صالة. أي لعنة هذه؟ أي نهاية؟