أفلام وجوائز: أفكار مهمّة ومعالجات متواضعة

18 ابريل 2022
"قلبان رقيقان" لأوليفيا روشيت وجيرار جان ـ كلاس: أسئلة المُراهقة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

عادة، تعكس الأفلام الفائزة بجوائز المهرجانات الكبرى مستويات فنية رفيعة ومتميّزة، أو جدة في الأفكار والمعالجات السردية، أو جماليات فنية لافتة أو غير مسبوقة. يندر جداً حدوث عكس ذلك، وفي حال حدوثه، يعكس توجّهاً أو رؤية محدّدة لدى لجنة التحكيم، تتأثّر غالباً بأوضاع سياسية أو اجتماعية، ساخنة أو ضاغطة. أحياناً، تنجم المشكلة من ضعف برمجة في المهرجان، أو تفاوت عام في المستوى الفني للأفلام.

أمور كهذه تعكسها أفلام فائزة في مسابقات أساسية وفرعية، في أبرز المهرجانات المنعقدة هذا العام، كمهرجاني روتردام وبرلين.

 

إلغاء تاريخ وتلاعب بصري

في الدورة الـ51 لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، المنعقدة افتراضياً بين 26 يناير/كانون الثاني و6 فبراير/شباط 2022، بعد إلغاء فعاليات الدورة السابقة عليها في اللحظات الأخيرة، بسبب تفشّي كورونا، فاز "إيامي" لباز إنسينا (باراغواي) بجائزة "مسابقة النمر". تعني "إيامي" الغابة أو العالم، في لغة قبائل الأيوريو، وناسها من الشعوب الأصلية البدائية، يعيشون منذ قرون في غابات وأنهار منطقة تمتدّ في بوليفيا وباراغواي. هناك نحو 5600 أيوريوي، يعيش 3000 منهم في بوليفيا، و2600 في باراغواي. حالياً، تشهد منطقتهم أسرع عملية لإزالة الغابات وإعادة التوطين، وطبعاً مع تغيير أو تغييب ثقافات وعادات وطريقة لبس ومعيشة أهل الأيوريو.

يحاول الفيلم الغوص في أساطير المنطقة وطقوسها التقليدية، بسرده قصة مؤثّرة عن كيفية طرد الناس من أراضيهم، من خلال فتاة صغيرة تدعى إيامي. بعد تدمير قريتها، وتفكّك مجتمعها، وقتل والدها، عندما جاء المستوطنون البيض، تتجوّل إيامي (5 أعوام) في الغابة المطيرة. بصوتها الشاعري الناعم، وبلغتها الأمّ، تروي رحلتها للخروج والبحث عن أيّ شخص باقٍ، إذ يتعيّن عليها العيش خارج الغابة المطيرة. فنياً، رغم جماليات الصورة والتصوير والمناظر الساحرة، والمحاولة الصادقة للمخرجة تسجيل شيء سيضيع نهائياً، أضرّ القالب المختار لسرد القصة وطريقته بالفيلم. غموض الموضوع، وعدم وضوح الخلفيات إلى حدّ بعيد، إضافة إلى التعليق الصوتي الهادئ، والنبرة التأمّلية الحالمة، ومحاولة شعرنة الموضوع تارة، وإضفاء الغموض والسحرية عليه تارة أخرى، والتركيز أكثر على الصُوَر الطبيعية، وغيرها من الالتباسات، هذا كلّه أفقد الفيلم التشويق والإثارة، تاركاً المشاهِد حائراً، مع خطر عزوفه عن الرغبة في متابعة المُشاهِدة، رغم كلّ شيء.

في المسابقة نفسها، فاز "سوف تنقذنا المُبالغة"، للفرنسية مورغان دزيورلا ـ بوتي، بـ"جائزة خاصة للجنة التحكيم". فيه، تعود المخرجة الشابة إلى قريتها الصغيرة في شمالي فرنسا، للتحقيق في قصة غريبة عن تهديد إرهابي. سريعاً، يتّضح سوء الفهم، وهزليّة الموضوع، إذْ ينكشف أنّ الفيلم يبدأ وينتهي بأفراد عائلتها: باتريك، الأبّ الستيني؛ وفاوستين، ابنة عمّها المُراهقة؛ وبرنار، العمّ الأكبر غريب الأطوار، وفابريس، العمّ الرومانسي المُضحك. النتيجة: قصة حقيقية، تكشف بشكل هزلي الروابط الأسرية وتعقيداتها، مع إضافة عناصر خيالية، في محاولة لخلق جديد، كوميدي وجوهري. الفيلم اشتغالٌ موسّع لآخر روائي قصير، بالعنوان نفسه، أنجزته دزيورلا ـ بوتي عام 2019، يبدو في لقطات كثيرة منه متقاطعاً مع أفلام المخرجة الفرنسية الراحلة آنياس فاردا، خاصة أفلامها الأخيرة، أو تلك الموغلة في أعماق الريف الفرنسي.

مقارنة الفيلمين، أحدهما بالآخر، تُبيِّن أنّ الخطّ السردي العام هو نفسه، مع بعض التوسّع والتعمّق، واتّخاذ الفيلم الفرنسي مساراً أكثر خصوصية، مع ذكر قصة الفيلم القصير، ومشاركته في مسابقة "مهرجان كليرمون فيران"، ومُشاهدة الأسرة له وهم فيه، بفضل لقطات قديمة صوّرت الحدث آنذاك. بهذا كلّه، تنسج مورغان دزيورلا ـ بوتي المزيد حول فيلمها، وردود أفعال الأسرة، المغايرة لما كانت عليه سابقاً. صحيحٌ أنّ في الفيلم طزاجة وأفكاراً جديدة، ومُبالغة أيضاً، لكنّه يبقى شذرات مركّبة، بالكاد متماسكة. المُبالغة حاصلةٌ في التمثيل وافتعال الأداء، وفي طول مدّة الفيلم (100 دقيقة) من دون أي داع، مصحوباً بفيض من الثرثرة. ورغم مواقف طريفة مُضحكة، وقدرٍ من التأمّل، يخلو الفيلم من أي أهمية أو تشويق أو متعة مشاهَدة.

 

استغلال وقمع وعنف

إلى ذلك، فاز "يوميات ميانمار" لـ"مجموعة أفلام ميانمار"، بجائزتي "أفضل فيلم وثائقي" و"منظمة العفو الدولية (أمنيستي)"، في الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي". أنجز الفيلم 10 مخرجين شباب من بورما، آثروا ـ رغم جرأتهم ـ أنْ يظلّوا مجهولين، لأنّ الإفصاح عن أسمائهم يعرّض حياتهم للخطر. الفيلم وثيقة حيّة وصادقة ضد الظلم والبطش، اللذين تعرّضت لهما ميانمار إثر الانقلاب العسكري (1 فبراير/شباط 2021)، ويرصد، في أغلب مشاهِده ـ المُلتقطة بكاميرات الهواتف متفاوتة الجودة والإتقان ـ الاحتجاجات التي عمّت البلد، والعصيان المدني الذي أعقب ذلك. كما يوثّق مدى وحشية القمع، ودموية الجيش تجاه المتظاهرين، وتجاه لابسي القمصان الحمراء، رمز الاحتجاجات.

 

 

الفيلم ـ الذي أنجزه شبابٌ بدافع الخوف والحزن والغضب، والفراغ الهائل الذي خلّفه موت صديقتهم، والأوضاع المتدهورة للبلد ـ لا يعتمد كلّياً على اللقطات المُسجّلة تلفونياً، أو المبثوثة في مواقع التواصل. أحياناً، يوظّف شخصيات درامية، تخدم أوضاعها الأحداث العامة، وأخرى حقيقية، مع رصد جوانب من حياتها تتداخل مع الواقع الملتهب حولها. هذا يعني تجنّباً واضحاً لصناعة فيلمٍ يعتمد، برمّته، على مادة تلفونية مُسجّلة. المقاطع الخيالية شاعرية ومجازية أحياناً، لكنّها مباشرة دائماً، وبشكل مؤلم. مثلاً: أبٌ يذهب إلى عمله رغم الإضراب، خوفاً على مستقبل ابنه، الذي يبتعد عنه أصدقاؤه، لأنّ والده يُعتَبر خائناً لحركة العصيان المدني، التي تقود الاحتجاجات.

لقطات "يوميات ميانمار" صادمة ومؤثّرة، تكشف بصدق أهوالاً وصعاباً وبشاعات، وتحكّم سلطة، وبطش ديكتاتورية لا تزال حاضرة إلى الآن، وجاثمة على حيوات أفراد ومجتمعات. ورغم التعاطف الإنساني الكامل مع الأحداث، وما وقع من جور، والضرورة الفاضحة للفيلم، تستدعي الوقائع مَشاهد كثيرة مألوفة لثورات وأحداث مماثلة، تكاد تكون متطابقة بحذافيرها، حصلت في عقدٍ واحد سابقٍ فقط. ورغم أنّ المقاطع متّصلة، بطريقةٍ متّسقة تُثير الإعجاب، وتسلسلها الزمني جيد وديناميكي، يُطرح تساؤلٌ عن الجديد فيه، على مستوى الأحداث، في بورما أو غيرها، وعلى المستوى الفني الذي صُنعت مئات الأفلام على غراره، بالتقنيات والأساليب نفسها.

في مسابقة "أجيال 14 بلوس"، المُكرَّسة للأفلام من عمر 14 عاماً وأكثر، في الدورة نفسها لـ"مهرجان برلين"، نال "مُخطط"، لفرخات شاريبوف (كازاخستان)، "الجائزة الكبرى للجنة التحكيم الدولية"، مناصفة مع "قلبان رقيقان" للبلجيكيين أوليفيا روشيت وجيرار جان ـ كلاس، بالإضافة إلى جائزة مادية، قيمتها 7500 يورو، لكليهما. يروي "مخطط" حكاية المُراهقة ماشا (فيكتوريا رومانوفا) وصديقاتها اللواتي يقبلن دعوات حفلات منزلية غامضة، يحصلن فيها على الشراب مجاناً، ويُكافأن مادياً في نهاية كلّ حفلة. بين حين وآخر، يشاركهنّ رجل بالغ في تلك اللقاءات البريئة. لماذا هذه الحفلات الصغيرة المغلقة في شقق سرية؟ لماذا هذه الأعمار تحديداً، والنوع المطلوب من الفتيات؟ أسئلةٌ كهذه اختارت ماشا تجاهلها والتعامي عنها، لثقتها المفرطة في صديقها رام (تاير سفينتسوف)، الوسيط الذي ينظم هذه اللقاءات، والذي يدفعها تدريجياً إلى احتساء الخمر وتعاطي المخدرات، ما يجعلها لاحقاً ضحية هذا الترتيب المفترس.

"مُخطط"، المستوحى من اعترافات حقيقية لمُراهقين كازاخستانيين، يسرد قصته بأسلوب بسيط، وبنية خطّية عادية، وأحداث غير مشوّقة، يسهل التنبؤ بها. الأداء التمثيلي ضعيف إلى حد بعيد، من دون تطوّر ملحوظ للشخصيات. يستكشف جوانب خفية ومظلمة في المجتمع الكازاخستاني، أبرزها الاستغلال الجنسي للمُراهقين، والدور القذر الذي يمارسه أصحاب الثراء الفاحش، في مجتمعٍ يتطوّر وينفتح على الحداثة الغربية، والاستهلاك العالمي. أمور أكّدها الفيلم عبر الانسلال التدريجي لماشا من الحضن الدافئ لأسرتها، رغم محاولات الأسرة، التي لا تكاد تملك شيئاً، توفير أفضل السبل لها، ولرفاهيتها، وفي الوقت نفسه، عدم التعدّي على حريتها. أمورٌ كهذه تناولها فرخات شاريبوف في فيلمه السابق، "18 كيلو هيرتز" (2020)، الذي يعتبره الجزء الأول لـ"مُخطط".

تدور أحداث "أليس"، للكولومبيّين كلير ويسكوف ونيكولاس فان هيميلريك، الفائز بجائزة "الدب الكريستالي" في المسابقة نفسها، في منزل يؤوي القاصرات، اللواتي اعتدن العيش في شوارع بوغوتا (كولومبيا)، بعد أنْ لفظتهنّ عائلاتهنّ لأسباب مختلفة، أو لعجز العائلات عن الاعتناء بهنّ، وتوفير حياة ملائمة لهنّ. أمام الكاميرا، جلست 10 مراهقات، طلب المخرجان منهنّ، وهما خلف الكاميرا، إغماض أعينهنّ، الواحدة تلو الأخرى، وتَصوّر شخصية خيالية تدعى أليس، والتحدّث عنها، وارتجال كل شيء بخصوصها، مباشرة أمام الكاميرا. فكرة ذكية، غرضها استدراج الفتيات لاستكشاف مدى خصوبة خيالهنّ، ورحابة عوالمهنّ، وتخيّلهن للعالم والبشر، أو محدودية هذا كلّه. وأيضاً، دفعهنّ ـ بطريقة مواربة ـ إلى التحدّث عن تجاربهنّ، وإتاحة الحرية الكاملة لعرض إسقاطات الماضي وصدماته، واستشراف الرؤى والرغبات المستترة، والكيفية التي ينظرن بها إلى المستقبل.

يُستشفّ من أحاديثهنّ وتصوّراتهن عن أليس، أنّ هذا ما حدث لهنّ فعلياً في الواقع، والأسباب نفسها التي أدّت بهنّ إلى هذا المصير المؤلم. أو أنّ هذا ما يتطلّعن إليه مستقبلاً، أو يحاولن تجنّبه لاحقاً. لذا، ظهرت الأحاديث مؤثّرة وصادمة، ومبكية أحياناً، لشدّة صدقها الإنساني. لكنْ، لا شيء غير هذا في "أليس". فنياً، الفيلم ليس وثائقياً، رغم التأكيد في بدايته أنّ تصويره حصل في 5 أعوام تقريباً. رغم هذا، يصعب تصنيفه وثائقياً، والحديث عن جماليات تمتّ للوثائقي بصلة. حتى طريقة التصوير تقليدية ومستهلكة، تميل أكثر إلى تصوير الريبورتاجات والحوارات التلفزيونية الصحافية، مع إدخال لقطات قليلة جداً وقصيرة للمنزل من الخارج، ولمكان مبيت الفتيات، وأسرّتهن، والساحة، واجتماعهنّ لمشاهدة التلفزيون، أو للرقص معاً.

 

مُراهَقة

أما "قلبان رقيقان"، فيتناول معاناة مراهِقَين من بروكسل، بيلي (بيلي ميوسن) ولوكاس (لوكاس روفمانس)، الحبيبين اللذين أنهيا لتوّهما الدراسة الثانوية، ويستعدّان للانتساب إلى الجامعة. كما يُعاين مواجهاتهما الحاسمة، في إجازة صيفية معقّدة، مليئة بالتغيير والتحدّيات، والحجر بسبب كورونا. في عمق المخاوف المستقبلية، يكمن الشخصيّ، وتحديداً شكوكهما إزاء العلاقة الخاصة بينهما، المستمرة منذ 5 أعوام، وإزاء مستقبلهما معاً.

 

 

يلتقيان في المقاهي، ويتسكّعان في الحديقة، ويجلسان في منزليهما، ويتراسلان عبر هاتفيهما وجهازي الكمبيوتر، في صيفٍ لا يكاد ينتهي. بعد تفكير ومحادثات وتساؤلات جوهرية وواقعية (أين وكيف سيعيشان؟ ماذا سيدرسان؟ هل سيبقيان معاً إنْ تباعدت مساراتهما المدرسية والفكرية كبالِغين؟)، ثم تنقلب علاقتهما المُريحة إلى توتّر وشقاق، وتصبح برمّتها موضع تساؤل.

تدريجياً، تنكشف أزمتهما. الأمل ضئيلٌ في إصلاح الأمور بينهما. هناك جهدٌ لمعرفة الأسباب الحقيقية لانفصالهما الوشيك. إذاً، يتمحور الفيلم حول الحب الأول، بكل ما له وعليه. الطوارئ الصحية لم تُحسِّن، بشكل متوقع، العلاقة بينهما، بل غرست فيهما وبينهما مخاوف جديدة، ومزيدا من التردّد إزاء انخراط أو تورّط في أي نشاط اجتماعي. وتحديداً في مسألة العيش معاً، وتكوين أسرة صغيرة.

اتّبع المخرجان نهجاً وثائقياً لـ"قلبان رقيقان"، رغم دراميته الواضحة. لا لقطات عفوية ولحظات مرتجلة التقطتها الكاميرا، إلاّ نادراً. هناك ديناميكية وسلاسة وحيوية قليلة جداً. لذا، يُلاحظ أن وتيرته بطيئة تقريباً، مع غلبة تكرار، وانتفاء أي تطوّر درامي. فيه، يبدو الأمر أشبه بارتجال موجَّه، أكثر من كونه ممارسة قائمة على العفوية والتلقائية. يتجلّى هذا في الحوار وحركات الممثّلين وتعبيراتهما. سبب هذا، ربما، تصوير الجزء الأكبر منه قبل الوباء، ثم استكمال التصوير لاحقاً. بشكلٍ عام، "قلبان رقيقان" ليس مملاً، ويُحسب له أنّه سَرَد حالة، واكتفى بالملاحظة، أكثر من إبداء أي نوع من التعليقات والآراء الحاسمة.

الملاحظ في هذه الأفلام، بأنواعها ولغاتها وأنماطها وتوقيتاتها المختلفة، أنّ الأفكار ذكية، وجديدة بعض الشيء، أو على الأقلّ هناك رغبة في طرح جديد وغير مطروق. لكنّ غالبية المعالجات دون مستوى الأفكار. وبالنسبة إلى الفنيّ والجماليّ والبصري، هناك معاناة ملحوظة وفقر جليّ يطغيان على كلّ شيء.

المساهمون