أفلامٌ لبنانية جديدة: جمالياتٌ تُعاين بشاعات

25 ابريل 2022
يمنى مروان وعلي سليمان في "النهر": حبٌّ معلَّق في غابة منغلقة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

المفارقة مُثيرةٌ للاهتمام: في مقابل انهياراتٍ جمّة في لبنان، تستمرّ نتاجات سينمائية لبنانية عدّة في ابتكار الأجمل والأعمق، في مقاربتها أحوال بلدٍ وناسه، ومصائب بلدٍ وناسه، وأعطاب بلدٍ وناسه. الذاتيّ البحت، وإنْ ينفتح على شيءٍ من سيرة بلدٍ وأهلٍ وعلاقات، يروي الحميميَّ فيه بكلامٍ وصُورٍ وتفاصيل، بعضها بصريّ فقط. البلد مُقبل على مزيدٍ من الانهيارات، عشية موعد انتخاب مجلس جديد للنوّاب (15 مايو/ أيار 2022)، في حال عدم إثارة أزمات إضافية لتعطيله؛ والسينما، المصنوعة في البلد وعنه، تقول إنّ مساراتها المقبلة ستشهد مزيداً من تفوّقٍ في اشتغال الصُور على مسائل حيوية وحسّاسة وآنيّة. البلد مُفكَّك، أي أنّه منهار؛ والسينما ـ التي تستلّ حكاياتها وصُوَرها وتأمّلاتها من البلد وتفكّكه، أي انهياره ـ تُفكِّك المُنهار في ذاتٍ وروحٍ وجسدٍ، وفي مسام مدينةٍ واجتماعٍ وأناسٍ.

ما تُفكِّكه السينما يُعرّي مخبّأ أو بعضه، ويفضح مكشوفاً أو بعضه، أيضاً. لن تكون تلك السينما "مُقاوِمة"، كما في بيان إدارة "مهرجان الفيلم العربي في برلين"، التي تُخصِّص برنامجها "بقعة ضوء" للسينما اللبنانية، في الدورة الـ13 (20 ـ 26 إبريل/ نيسان 2022). ما يُصنع حالياً، أي في الأعوام القليلة الفائتة على الأقلّ، يشي بتطوّر سينمائيّ، اشتغالاتٍ وتفكيراً وأنماطَ مُعاينة بصرية لوقائع ومسالك وحيوات، ويعكس حالةً مفادها أنّ نتاجات محلّية متفرّقة تُصبح مرايا واقعٍ، تنتقي منه ما يتلاءم وهواجس مخرجين ومخرجات وأمزجتهم وتأثّراتهم.

هذا حاصلٌ رغم تنامي الأزمة الاقتصادية ـ المالية، المُعلنة عشية "انتفاضة 17 أكتوبر" 2019، على الأقلّ؛ وتفشّي كورونا، بدءاً من منتصف مارس/ آذار 2020؛ وانفجار مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/آب 2020.

 

هذا فعلٌ سينمائيّ

مفردة "مُقاوِمة" غير سلبية، لكنّها تبدو إلغاءً للفعل السينمائي، الأهمّ والأساسيّ، في تناول مسائل، وكيفية تحويلها إلى أفلامٍ، ترتكز على لغة الصورة، وعلى قدرتهما معاً (اللغة والصورة) على تبيان بعض الحاصل هنا وهناك، الآن وأمس. المُفردة مُستخدَمةٌ في سياق استعادة علاقة بعض السينما اللبنانية بشيءٍ كثيرٍ من أحوال البلد واجتماعه ومساره، أقلّه منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). يذكر البيان أنّ اختيار أفلامٍ لبنانية لبرنامج "بقعة ضوء" منبثقٌ من كشفِ هذه السينما "مُقدِّمات الأزمة المعاصرة" للبلد، و"سوء إدارتها وطرائق التعامل معها". مخرجون ومخرجات لبنانيون قادرون، في عقودٍ متواصلة، على "تحويل صدماتهم وخبراتهم إلى سرديات سينمائية مُبدعة"، تساهم "في تشكيل مسارات المقاومة"، وتتجلّى فيها "مساعيهم إلى مواجهة أقدارهم بشجاعة".

في البرنامج، أفلامٌ لمخرجين ومخرجات يشتغلون في أوقاتٍ مختلفة، من سبعينيات القرن الـ20 إلى راهنٍ مُثقلٍ بتراكمات وتساؤلات وأهوالٍ، تستدعي كلّها اشتغالاتٍ سينمائية (وغير سينمائية)، تُسائل وتُعاين وتبحث وتُعرّي. برنامجٌ يقول، من بين أمور أخرى، إنّ المسار الجماليّ للسينما اللبنانية غير مُنقطعٍ تاريخياً، رغم أفلامٍ كثيرة غير خارجةٍ عن التجاري ـ الاستهلاكي. من برهان علوية وجوسلين صعب ورندة الشهال ـ رغم أنّ إنتاج أفلامهم المختارة عائدٌ إلى أوقاتٍ عدّة: 1981 ("بيروت اللقاء" لعلوية)، و1995 ("كان يا ما كان بيروت ـ حكاية نجمة" لصعب و"حروبنا الطائشة" للشهّال) ـ إلى سيمون الهبر وجيله، المنتمي إلى الربع الأول من القرن الـ21.

برنامجٌ غنيّ بتنويعاتٍ، تقول إنّ السينما تُنتج، دائماً، أفلاماً مهمّة، تمتلك لغة سينمائية في معاينتها بلداً وناسه، تماماً كالحاصل حالياً: أفلامٌ جديدة، تقول الأمر نفسه، بتقنيات وإبداعات تختلف عن تلك الموجودة سابقاً، بفضل تطوّرات التقنيّ والفني والحياتي.

المسألة أبعد من مجرّد مُقاومة. أفلامٌ لبنانية عدّة تندرج في هذا السياق، لكنّها متأتيةٌ من فعلٍ سينمائي يتجاوز مجرّد مقاومة الحاصل، أو الاكتفاء بتبيان شيءٍ منه، كمُسبِّب لأزمات وتحدّيات ومخاطر. إنجاز فيلمٍ لبنانيّ غير محصورٍ بمقاومة "الموت" فقط، وتحقيق رغبة العيش بمواجهة الأعطاب فقط. هذا جزءٌ متواضع من فعلٍ سينمائيّ، يختاره مخرجون ومخرجات لكونه فعلاً سينمائياً، يُستعان به لقولٍ أو بوحٍ أو توثيقٍ أو سردٍ أو تحريضٍ على تأمّل وتفكير؛ ويُراد منه تمريناً على كيفية اختراع صُور لسرد حكاية، أو لكشف حالة، أو للتعبير عن إحساس. مُقاومة "الموت اللبناني"، بأشكاله وتعبيراته المختلفة، حاصلةٌ في السينما، لكنّ أفلاماً عدّة فيها تذهب إلى أبعد من المُلتَقَط والمُصوَّر، بغوصها في مسام فردٍ وملامحه، وفي معالم اجتماعٍ ودهاليزه الخانقة، إنْ بفعل الأزمة، وإنْ بسبب خرابٍ ذاتيّ جرّاء ضغطِ جماعةٍ، صغيرة (أهل، بيئة، جماعة قريبة) أو كبيرة (طوائف، أحزاب).

 

 

 

تنويعُ مواضيع واشتغالات

البيان نفسه غير مُنفضٍّ عن الأزمة الخانقة التي يُعانيها اللبنانيون واللبنانيات، خاصة منذ "انتفاضة 17 أكتوبر"؛ وغير متغاضٍ عن "جذور" تلك الأزمة، فالحرب الأهلية اللبنانية أحد تلك الجذور، وسبب "انشقاقات مجتمعية طائفية عنيفة". هذه الحرب حاضرةٌ في "دفاتر مايا" (2021) لجوانا حاجي توما وخليل جريج و"أعنف حبّ" (2021) لإليان الراهب. مواجهة الذات، بقسوة باحثٍ عن خلاصٍ فرديّ، حاضرٌ في "النهر" (2021) لغسان سلهب، الذي (النهر) يُشير إلى مثول تلك الحرب في وعي وذاكرة فرديين. الراهن، المنبثق من خرابٍ يُمعن فتكاً بمقوّمات أساسية لعيشٍ عاديّ، مرويٌ في "البحر أمامكم" (2021) لإيلي داغر، مع إضافاتٍ مستلّة من أسئلة الهجرة والانتماء والعلاقات الأسرية والعاطفية، علماً أنّ تلك الإضافات غير مباشرة، فالأساسيّ كامنٌ في عودةٍ من مهجر إلى بلدٍ مُخلَّع، وفي أناسٍ منكسرين وتائهين ومُتعَبين، وفي مجتمعٍ مُحبَط ومهزوم ومهترئ.

بعض الراهن أيضاً، الذي له في أعوامٍ قليلة فائتة جذرٌ أساسي، يُشكّل نواة درامية لـ"كوستا برافا" (2021) لمنية عقل، فأزمة النفايات، المندلعة فعلياً عام 2015، معلّقة بين فساد نظام حاكم، وتواطؤ بين أمراء حربٍ غير منتهية، ومافيات سلم ناقص وهشّ؛ ومخترقةٌ عائلةً تتعرّض لتفكّك وصدامات وموتٍ، لأسبابٍ تبقى أزمة النفايات أبرزها، والنفايات غير محصورة بمعناها المباشر، فمفردتي "زبالة" و"خرا" تردّدهما أكثر من شخصية، وتُصيبان فرداً وحالةً وتفكيراً وطريقة عيشٍ.

أهمية الموضوع المختار في "كوستا برافا" غير متوافقةٍ مع الاشتغال السينمائي. القراءة العامّة هنا منصرفةٌ عن اشتغاله، لما فيه من ارتباكات فنية وتقنية، أبرزها خلل في بنية السيناريو، وبعض الحوارات، وإطالة مدّته (106 دقائق) التي (المدّة) يُمكن اختصارها، بحسب المُقدَّم على الشاشة. كأنّ هذا الفيلم نسخة مطوّلة عن روائي قصير بعنوان "سابمارين" (2016، 21 دقيقة)، لعقل نفسها، تحتاج (النسخة المطوَّلة) إلى إضافات درامية مُكثّفة وضرورية.

هذه أفلامٌ مُنتَجة حديثاً، بعد أعوامٍ من اشتغالات مختلفة عليها. بعضها معروضٌ في صالاتٍ تجارية لبنانية، وفي أكثر من مهرجانٍ دولي وعربي. "ع أمل تجي" (2021) لجورج بيتر بربري مختلفٌ. ابتعاده عن لحظةٍ لبنانية عامة، من خلال الخاص، مدخلٌ إلى اكتشاف حيوية نصٍّ واشتغال، في سرد حكاية 4 أصدقاء، يختبرون أول تجربة جنسية لهم. النصّ منبثقٌ من تجربة وتأمّلات وتساؤلات شخصية لبربري، والتفاصيل المنفلشة في السياق الدرامي تخرج من قلبٍ وروح وانفعال وتفكير، لمراهقين يخطون خطواتٍ أولى باتجاه الشباب. الاشتغال سلس وهادئ، رغم غليان ما يعتمل في أحوال كلّ واحد منهم.

الذاتيّ أساس "النهر". إشارات ورموز، يوردها غسان سلهب في مسام نصّه السينمائيّ، توحي بأنّ الفيلم معنيٌّ بالأبعد والأوسع من سيرة ذاتية. التنبّه إلى الرقم "58"، المكتوب على جذع شجرة، يُزيل كلّ التباس عن جوهر السرد (يُفترض بمشاهدي أفلام سلهب، والمهتمّين بسينماه المختلفة كثيراً عن أنماطٍ سينمائية لبنانية أخرى، إدراك معنى هذا الرقم عند مشاهدتهم "النهر").

شخصيتان وحيدتان (علي سليمان ويمنى مروان)، وكلب يظهر قليلاً، وأصوات كثيرة، بعضها لطائرات حربية، يبدو (صوت الطائرات) سكيناً يمزّق الظاهر لتحرير المبطّن في ذاتٍ وروح من أسر المُعلَّق في هاتين الذات والروح. رحلة عالقة في غابةٍ، وكلامٌ أقلّ من مساحات الصمت والتأمّل، وتصفياتٌ تنتهي كلّها بمفردة واحدة: "أحبّكِ"، وإنْ تبقى، المفردة نفسها، معلَّقة، فاللاحق عليها يُتيح تفكيراً وإحساساً، ينبثقان من ذات كلّ مُشاهِد/ مُشاهِدة.

 

كتابة عن المُشاهَد

الكتابة عن الأفلام المذكورة متأتية من مُشاهدتها، فهناك أفلامٌ أخرى يُفترض بإنجازها أنْ ينتهي قريباً، وأخرى يُتوقّع أنْ تُعرض في صالات لبنانية ومهرجانات دولية وعربية، في أسابيع قليلة مقبلة. كلّ فيلمٍ منها يحتاج إلى حيّز نقديّ خاصٍ به، بعد "ع أمل تجي" و"دفاتر مايا"، إذْ لكلّ منهما مقاربة نقدية منشورة سابقاً ("العربي الجديد"، الأول في 4 إبريل/ نيسان 2022، والثاني في 9 مارس/ آذار 2022). الكتابة ترغب في القول إنّ أملاً وحيداً يواجِه خراباً فظيعاً، يتمثّل بأفلامٍ تُمتّع عيناً، وتُثير اضطراباً في ذاتٍ وروح، أجمل وأهمّ وأعمق من اضطراب عيشٍ في بلدٍ منهار؛ وتحثّ عقلاً على مزيدٍ من التفكير والنقاش. جماليات معظمها جزءٌ من اشتغالٍ يتبلور، أكثر فأكثر، في مسارٍ تاريخي، يستفيد صانعوها (الجماليات) من ذاكرة محلية، واختبارات يومية، ووعيّ دائم، ومراقبة حسّية وعميقة للبلد وناسه.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

كتابةٌ كهذه متعلّقة بأفلامٍ روائية طويلة، وبوثائقي واحد (أعنف حبّ). أفلامٌ قصيرة، بعضها مُنجزٌ في إطار مشروع متكامل، يتناول مسألة محدّدة، كتفشّي كورونا وانفجار مرفأ بيروت. للأول مشروع "العيش في ظلّ الوباء"، وفيه 5 أفلامٍ قصيرة: "إحساس غريب" لزينة صفير، و"كوفيديو" لكارول منصور، و"ليالٍ ونهارات في زمن الوباء" للميا جريج، و"النافذة الخلفية" لغسان سلهب، و"ما بعد الأورجي" لمحمود حجيج (24 إبريل/ نيسان 2021). للثاني مشروع آخر بعنوان "بيروت... آب 2021"، وفيه 5 أفلام قصيرة أيضاً: "زهور زرقاء عديمة الرائحة تستيقظ قبل أوانها" لبانوس إبراهاميان، و"ورشة" لجان كلود بولس، و"إعلان حرب" لإيلي داغر، و"اضطراب" لسارة قصقص، و"مينارفا" للوسيان بورجيلي (9 أغسطس/آب 2021).

هناك أفلام قصيرة أخرى تُنجز بشكلٍ مستقلّ، يبحث بعضها في أحوالٍ حاصلة بعد الانفجار نفسه، كـ"إعادة تدمير" لسيمون الهبر (15 سبتمبر/ أيلول 2021)، و"أخطبوط" لكريم قاسم (6 إبريل/ نيسان 2022)؛ ويتوغّل بعضها الآخر في ذاتٍ وعائلةٍ، بما يعتمل فيهما من غليان وانفعالاتٍ وتفكير، كما في "ولعلّ ما أخشاه ليس بكائنٍ" لكورين شاوي (8 إبريل/ نيسان 2022).

المساهمون