القسوة، بأنواعها المختلفة، تحضر في 3 أفلام قصيرة، مشاركة في مسابقةٍ خاصّةٍ بها، في الدورة الـ 71 لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)"، المُقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021، والأفلام تلك فائزة بجوائز المسابقة.
قسوة تنفلش في الجسد والروح، وتنبثق من وحدةٍ وسطوة ذكورية، وتتبلور في بيئات ضيّقة وانغلاق حادّ. قسوة تخترق الاجتماع، وتولد من التربية، وتنفجر في أفرادٍ يُصبحون مرايا تلك البيئات، وإنْ يصمت بعضهم، فالخوف قاسٍ بدوره، والعزلة أشدّ، والتقوقع خانقٍ، والوحدة تُبلور حضورها في ذاتٍ ونَفْسٍ وعلاقات.
للقسوة ترجمةٌ عمليّة، يتلقّاها الفرد في عمرٍ باكرٍ، فينطوي عليها طويلاً قبل خروجه منها إليها، بحثاً في تفاصيلها، وعن أحداثها ومُسبّبيها ("خالي تودور" لأولغا لوكفينتزوفا، الدب الذهبي لأفضل فيلم قصير)؛ أو يعيشها عجوزٌ، فيكتشف مجدّداً مسامها وعنفها في لقاء عابر مع أفراد عائلةٍ، يرى في صغيرها/ حفيده لحظة خروجٍ من الوحدة قبل انغلاق الوحدة عليه مجدّداً ("اليوم يتمّ" للصيني جانغ دالاي، الدب الفضي ـ جائزة لجنة التحكيم)؛ أو يعيشها الفرد صغيراً، بسبب سطوة صديقٍ يعاني ارتباكاً خانقاً في سلوكٍ وعيشٍ ("بيض عيد الفصح" للبلجيكي نيكولا كِبّينز، مُرشَّح برلين للأفلام القصيرة لجوائز السينما الأوروبية).
المخرجون الثلاثة مولودون في ثمانينيات القرن الـ20. جنسياتهم موزّعة على دولٍ تشهد صناعة سينمائية فاعلة ومؤثّرة، جمالياً وثقافياً وفكرياً وبصرياً. التحريك أحد أنواعها، والتوثيق المبطّن في سياق سرديّ نوعٌ آخر، بينما الروائيّ البحت ناضجٌ سينمائياً إلى حدّ إلغاء كلّ فاصلٍ بين أنواعٍ وهواجس بصرية وفنية.
البلجيكي كِيبّينز (1989) يرى التحريك أنسبَ تصوّرٍ سينمائي في قراءة حالةٍ، تتخبّط في ارتباكات ومخاوف وهواجس وقلاقل. الشخصيتان الأساسيتان تتمثّلان بمراهِقَين اثنين، ما يُضفي على التحريك عاملاً أجمل في صُنع متتاليات بصرية، تروي حكاية علاقة وانفعالٍ وسقوطٍ في ضيق عيشٍ يكاد يكون (العيش) مفقوداً لشدّة هذا الضيق. والتوثيق، المغلّف بمفردات سرديّة، يدفع لوكفينتزوفا (1981) إلى محاورة خالها تودور، المعتدي جنسياً عليها في طفولتها. المواجهة غير ظاهرةٍ بصرياً، بينما تسجيل حوارِ استعادة الماضي بينهما مسموعٌ. أهذه لعبة فنية، أو رغبة في إضفاء مزيدٍ من التشويق، أو تلبية لحاجة إلى متنفّس سيكولوجي يُريح المخرجة في سماعها فصول معاناتها على لسان جلاّدها، أو غياب جرأة تصوير المواجهة، رغم جرأة المواجهة نفسها؟
انعدام كلّ حدّ بين الأنواع يجعل دالاي (1982) أكثر انفتاحاً على دواخل شخصيات قليلة، تلتقي في منزل الجدّ، وتنكشف قليلاً. الركيزة الدرامية ماثلةٌ في حوار صامتٍ (يتخلّله كلامٌ قليل للغاية) بين الجدّ والحفيد، فهما طرفا خطّ ممتد بين سنين ومعارف واختبارات وأعمار مختلفة للغاية بينهما. إصرار الجدّ على مُشاهدة فيلم الحفيد (تصوير سيارات عابرة في أحد الشوارع، لمدّة ساعتين) يقول ـ بصمتٍ مهيب وبتأمّلٍ عميق ـ أشياء كثيرة عن المخبّأ فيهما وبينهما.
للتوثيق متطلّباته، التي تُلبّيها أولغا لوكفينتزوفا، بعد 20 دقيقة من تصوير يحتال، بداية، على النواة الأساسية، قبل انكشاف مغزى لقاء المخرجة بأفرادٍ عجائز من عائلتها، بعضهنّ نساء منهمكات في استعادة ماضٍ لهنّ عبر صُور فوتوغرافية (الصُور الفوتوغرافية ستكون مشتركاً بين الجدّ والحفيد، بشكلٍ غير مباشر، في "اليوم يتمّ")، والتفاصيل الجانبية تظهر في أشغالهنّ اليومية المعتادة، بينما "صوت" الحوار بين الشابّة والخال يُظلِّل صُوراً ولقطات مبثوثة في سياق سردٍ موجع وقاسٍ عن علاقة "جنسية" غير مكتملة (يُصرّ الخال على تأكيد عدم ولوجه في ابنة شقيقته، بينما الشابّة تردّ بضحكة ساخرة كأنّها تحمد الربّ على هذا).
للتوثيق متطلّباته، إذْ تذكر لوكفينتزوفا، قبل جينيريك نهاية "خالي تودور"، معلومات عن وقائع مخيفة: واحد من أصل 5 أولاد يتعرّض لـ"سوء معاملة" قبل بلوغه 18 عاماً؛ 90 في المائة يعرفون مرتكب الفعل الجُرمي هذا عليهم؛ 70 في المائة من الأولاد غير معترفين بـ"الاعتداء/ سوء المعاملة"؛ بعض هؤلاء (الضحايا) يكشف عن الحاصل معهم في مرحلة البلوغ، وآخرون (40 في المائة) لن يتحدّثوا عن ذلك مطلقاً، ويعيشون لوحدهم مع صدمتهم تلك مدى حياتهم.
معطيات مخيفة، رغم أنّ شبيهاً لها حاصلٌ في دول كثيرة. اللقطة الأخيرة مُعبِّرة سينمائياً وحياتياً ونفسياً: تقف أولغا لوكفينتزوفا أمام الكاميرا. يرتفع وجهها قليلاً صوب السماء. عيناها شبه مغلقتين، ورذاذ المطر يتساقط عليها. أيكون هذا اغتسال أو تطهّر، أو راحة مطلوبة من ثقلٍ طاغٍ عليها أعواماً طويلة؟
اللقطة الأخيرة في "اليوم يتمّ" (ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي المعتمد رسمياً في الـ"برليناله" الـ71: Day Is Done) مُعبِّرة بدورها، سينمائياً وحياتياً ونفسياً: يخرج الأبوان وابنهما من منزل الجدّ. يودّعهم العجوز بعد أنْ يطلب من حفيده البقاء معه وقتاً إضافياً، فللحفيد "رحلة" إلى روسيا لاحقاً (لن يتمكّن الحفيد من تلبية رغبة جدّه، مع أنّه موافقٌ عليها). يبتعدون قليلاً، فيقول الجدّ شيئاً لن يفهمه الحفيد، ولن يُكرّره الجدّ ثانيةً. ينتظر العجوز اختفاءهم، وعندها، يعود إلى منزله مغلقاً الباب عليه. يجلس على كرسيّ هزّاز، ويتأمّل صور الماضي. يسقط شيءٌ ما عليه، فلا يُبالي، مكملاً غرقه في ماضٍ قديم، سيبقى وحده معه إلى النهاية، كما يبدو.
في التحريك (15 دقيقة) تساؤلات عن مسائل عيش وحياة وعلاقات. هناك جامعٌ بين الصديقين، رغم عنف الأكبر سنّاً على الأصغر منّه. القسوة نابعةٌ من بيئة ومسالك، لكن الصُور غير معنية بها، بل بحاصلٍ بينهما.
إنْ تُجدِ المقارنة نفعاً نقدياً، يُصبح الاختيار بين الأفلام الثلاثة سهلاً: الصينيّ (إنتاج الصين، 2021، 24 دقيقة) سينمائيّ بصُوره وكادراته ومناخه وصمته ومتتالياته، وبتمكّن بديع في ربط البداية بالنهاية، مع الأبوين وابنهما في سيارة تقلّهم أولاً إلى منزل الجدّ، ثم تُعيدهم إلى منزلهم. الغلبة للصمت، فالصمت أقدر على تعبيرٍ أجمل، خصوصاً أنّ الممثلين يقولون بحركة أو ملمح أو وجه أو نبرة ما يُفترض بهم قوله والبوح به. تغييب التوثيقيّ بصرياً في فيلم أولغا لوكفينتزوفا (إنتاج مشترك بين بلجيكا والبرتغال والمجر، 2020) يتناسق وأولوية الصورة السينمائية في التقاط لحظة ومناخ ومشاعر وخبريات. بينما التحريك (إنتاج مشترك بين بلجيكا وفرنسا وهولندا، 2020) يحافظ على حِرفية الاشتغال، صورة وسرداً وألواناً وتفاصيل.