"ما تشاهدونه الآن ليس فيلماً هوليوودياً". تُنشر هذه الجملة مع صُور من حربٍ إسرائيلية، لن يكون هناك أي معنى لإضافة مفردة "وحشية" عليها، فكلّ حربٍ إسرائيلية وحشية، باستثناء أنّ الانتقام الإسرائيلي من قطاع غزة، بسبب "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، يتفوّق على ذاته، وحشيةً ودمويةً وعنفاً، تقترب كلّها من المعنى الأصدق لـ"إبادة".
والجملة تلك - إذْ يُراد لها أنْ تؤكّد واقعية صُور مُلتَقطة لأمكنةٍ فلسطينية تتعرّض لتدمير، وأبناؤها وبناتها يواجهون إبادة فعلية ـ تكسر كلّ حَدّ فاصل بين واقع وخيال، فالواقع قاسٍ إلى حدّ الخيال، والخيال أعجز من أنْ يبتكر واقعاً صافياً كهذا.
لكنْ، مع كلّ مُصابٍ يحلّ في أرضٍ قريبةٍ وأناسٍ منها أقرب، تُستعاد أفلامٌ معنيّة بتلك الأرض وأولئك الناس، والأفلام مُنجزة في بلدِ الأرض، ومع/عن أبنائه وبناته؛ أو خارجه، لكنْ عن أبنائه وبناته، على الأقلّ. ففي 23 يوماً من القتل الإسرائيلي في قطاع غزّة أساساً، كما في الضفة الغربية، تُنشر وتُبثّ صُورٌ، تلفزيونية وفوتوغرافية، بشكل سريع، لكنْ من دون أنْ يكون أسرع من القتل الإسرائيلي. في مناخ كهذا، يُفتّش مهتمّون ومهتمّات عن أفلامٍ فلسطينية وغير فلسطينية، إذْ لا سبيل لفعلٍ يريده كثيرون وكثيرات، من دون قدرة على تحقيقه، رغم أنّ تظاهراتٍ، في مدن عربية وغربية، تكسر صمت سلطات حاكمة، وتتحدّى تواطؤ حكوماتٍ مع القتل الإسرائيلي.
العجز عن فعل شيءٍ صائبٍ قاسٍ ومُخيف. التظاهرات وحدها غير كافية، وارتفاع نبرة أوروبية وأميركية - تقول شيئاً مهمّاً من وقائع الحاصل في فلسطين المحتلّة، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بل منذ 75 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي - مطلوب وضروري، رغم أنّ حكومات غربية "ديمقراطية" غير سامعةٍ وغير قابلةٍ بما تقوله تلك النبرة.
أفلامٌ تحضر في بال مهتمّ/مهتمّة، لكنْ حضورها هذا غير مؤثّر، والكتابة عن بعض تلك الأفلام، غداة أعنف ليلةٍ فلسطينيةٍ من الليالي الـ23 من العنف الإسرائيلي (27 ـ 28 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، أقلّه إلى الآن، تبقى تلبيةً لمهنةٍ، مع أنّ في استعادة هذا البعض، وسط الانحلال الأخلاقي الغربي (لا داعي لذكر الانحلال الأخلاقي العربي، فهذا جزءٌ من أعمال سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية واجتماعية يومية)، يُذكِّر بسينما فلسطينية وغير فلسطينية مهمومة بيوميات عيشٍ في قهرٍ، منبثقٍ من احتلالٍ، ومتأتٍّ من سلوكٍ.
إنْ يكن "حتى إشعار آخر" (1994) و"حيفا" (1996) لرشيد مشهراوي، و"حكاية الجواهر الثلاث" (1996) لميشيل خليفي، أكثر الأفلام الفلسطينية تذكّراً واستعادة، لارتباطها المباشر بغزّة، وبأحوال ناسها وأنماط عيشهم وتفكيرهم، فهذا غير حائلٍ دون تذكّر أفلامٍ أخرى واستعادتها، كـ"ديغراديه" (2015) و"غزّة مونامور" (2020) للأخوين طرزان وعرب ناصر، اللذين يُعتبران الأعمق في تفكيك بيئةٍ واجتماعٍ وحياةٍ ومكان (غزّة)، وفي قراءة وقائع، بعضها حميم، ومعظمها مفتوحٌ على آثار حصارٍ خانق تفرضه إسرائيل منذ أعوام مديدة.
هذا مختلف عن "كتابة على الثلج" (2017) لمشهراوي أيضاً، "الموغل برمزيّته"، كما في سؤال "العربي الجديد" لمخرجه (28 أكتوبر/تشرين الأول 2018)، الذي يؤكّد أنّ تلك الرمزية "أكبر وأكثر حضوراً" هنا (أي في الفيلم).
واقعية "غزة مونامور" ("العربي الجديد"، 21 سبتمبر/أيلول 2020) مثلاً متأتيةٌ من انشغال، سينمائي وانفعالي واجتماعي، بما يُشغل الفرد في حياته اليومية، فالقطاع محاصرٌ، وبعض الحاصل فيه يزيد الاختناق حدّة. كلّ شيء يبدو كأنّ شيئاً لن يحدث. مسارات عادية لأناسٍ بسطاء، يُقيمون في همومٍ غير متناهية، ويلجأون إلى أنماط عيشٍ لتمضية وقتٍ ثقيل. هذا الإحساس بأنّ شيئاً لن يحدث يزداد ضغطاً، بسبب وفرة ألوانٍ غامقة ورمادية، وطقسٍ شتائيّ، وليالٍ طويلة، وانعدام كلّ ابتسامة أو ضحكة (باستثناء لحظاتٍ نادرة). أفرادٌ يظهرون في المشهد بشكلٍ متتالٍ، فهُم أساس نصٍّ يكتبه الأخوان ناصر (السيناريو مكتوبٌ بمشاركة فاديت درُوَار)، يرسمان فيه لوحاتٍ تعكس جوانب من نفوسٍ وانفعالات محمّلة بتعبٍ وأحلامٍ مبتورة، وبرغبة في خلاصٍ فعليّ غير مُقبل، إلا نادراً.
لكنّ الإحساس بأنّ شيئاً لن يحدث، وإنْ يتأكّد لحظة تلو أخرى، يروي الحكاية والحالة بكلامٍ لن يحول دون مشهديات صامتة، وقلّة المشهديات الصامتة تبدو كأنّها تربط المَشاهد بعضها ببعض، في سياق سلس يُتيح بعض ضحكٍ، وإنْ ينبثق من وجعٍ وأذيّة، ويقول بعض ألمٍ من دون ندب أو بكائيات.
وفرة الرمزيّة في "كتابة على الثلج" تجعل متابعة الحكاية أصعب، خصوصاً أنّ اختباراً يشتغله مشهراوي، يتمثّل بجمع ممثلين وممثلات عربٍ، تلتقي الشخصيات التي يؤدّون في منزل واحد، لليلةٍ واحدة، وكلّ شخصية تعكس شيئاً من العالم العربي أيضاً: "أريد مواجهة الانقسامات المختلفة بتأكيد إمكانية العمل العربي المشترك، الذي يتجاوز الحدود والانقسامات".
رغم هذا، تبدو الحدود أقسى بين أنظمة وشعوب، والانقسامات أسوأ بين عربٍ وعربٍ. أمّا السينما، فيُفترض بها أنْ تبقى الأداة الأهدأ، وثائقياً وروائياً، في مقاربة المُصاب ونتائجه، والسابق عليه أيضاً.