حكاية "مهرجان تامبيري الفنلندي للأفلام القصيرة" تعود إلى عام 1969، عندما نظّم أعضاء "جمعية السينما الفنلندية" مهرجاناً وطنياً، يُتيح للطلبة والهواة والمحترفين تقديم أفلامهم على منصّاته، من دون قيود أو شروط صارمة. بعد عامٍ فقط من نجاح التجربة، قرّر منظّموها توسيع مساحتها، لتشمل تجارب أخرى عالمية. منذ ذلك التاريخ، وبعد مضي أكثر من نصف قرن، وبعد وضعه على خريطة أهم مهرجانات الأفلام القصيرة، لا يزال المهرجان ميّالاً إلى تثويرٍ شمالي معهود، سمته العامة الهدوء والتطوير.
في دورته الـ51، التي أُقيمت افتراضياً بين 10 و14 مارس/ آذار 2021، خَلَط المهرجان بين الأجناس الفيلمية، وأشرك في مسابقاته أفلاماً معروضة قبل أعوامٍ قليلة. ولم يتردّد في إضافة أخرى، تجاوز طولُها حدود زمن الفيلم القصير.
جدولة مسابقات دورته الأخيرة هذه تؤشّر على ترحيب بالتجريب، ومنح الاشتغالات السينمائية البسيطة فرصة التنافس على جوائزها. النتائج تدعو إلى التأمّل في تجربة مهرجانية رائدة، مُنفتحة على كلّ مستويات العمل السينمائي، جمالياً وفكرياً. كَمّ المعروض منها (44 ألف مُشاهدة منزلية) يُشكِّل مَشهداً بانورامياً للوضع البشري المُتأزّم.
فيلم التحريك الفنلندي، "كلّ الأشياء الحسّاسة" (2020، 13 دقيقة) لتاتو بويافيرتا (جائزة لجنة الشباب) يُقارب موضوعاً فلسفياً ذا صلة بحرية الأديان، واحترام طقوسها. دمى الجوارب تقول: "في اللحظة التي بدأ الإنسان فيها رفض ديانة الآخر، وأراد فرض ديانته عليه، اشتعلت نيران الكراهية، ولم تضمر حتّى اللحظة". عزلة الإنسان المعاصر ينشغل بها فيلم الرعب الفرنسي، "آخر الرجال" (2020، 16 دقيقة) لأدريان جانو، كتابةً وإخراجاً (جائزة أفضل فيلم نوع)، الذي يختلق قصّة، تُقارب حبكتُها عوالم أفلام "الزومبي" بأسلوبٍ سينمائي، يذهب فيه إلى أعماق الإنسان المعاصر، لحظة إحساسه بالوحدة، وتشبّثه ـ لحماية نسله ووجوده ـ بآخِر "زومبي" يلتقيه في الصحراء الخالية.
عربياً، فكرة الصراع ـ الوجودي والسياسي والمجتمعي ـ تتقارب في فيلميّ "السِت" (2021، 20 دقيقة) للسودانية سوزانا ميرغني (الجائزة الكبرى)، و"بيانو الجدار"(2020، 3 دقائق) للفلسطينية أسمى غانم (جائزة الجمهور وتنويه خاص). 3 دقائق تكفي لتكثيف غضب أطفال مخيم قلنديا للاجئين الفلسطينيين، في مدينة رام الله، من جدار إسمنتي عالٍ يعزلهم عن العالم ويُحاصرهم، ولا بُدّ لهم من التفكير بوسيلة ما لتحطيمه. لا بأس أنْ تكون وسيلة الانتقام منه مُتخيّلة، كأنّ تُحيله إلى خامة تشكيلية قابلة للتطويع والتشكّل، كما هم يريدون، لا كما يُريد مُشيّدوه.
هذا، لوحده، يخفّف من وطأة ثقله وغلاظة جدرانه، وربما ينسف أسباب وجوده. هم تخيّلوا مُستطيلاته مفاتيح بيانو، والسينما أعانتهم على ذلك. صنع خيالُهم لبِنَته الصلبة، وجعلوها آلة موسيقية رائعة. داروا ورقصوا حولها. غيَّروا، بخيالهم، وظيفته من جدار مانع للحرية، إلى آلة موسيقية مع أنغامها، وهذا مكَّنهم من الذهاب إلى آخر الدنيا. السخرية من علوّه وثقله طافحة، والمضي في التلاعب بشكله تُغيظه حتماً، فهو لم يُؤسَّس لهذا الغرض، واسمه الحقيقي "جدار عازل" لا "بيانو الجدار"، كما تريد السينما تسميته.
أطفال المخيم يفعلون ذلك بقوّة أحلامهم. التحدّي والسخرية والمواجهة مفردات تتحرّك وتتناغم مع رقصات الأطفال أمام الجدار الأصم، وتتسرّب إلى الشاشة برشاقة أصابع عازف بيانو ماهر. الفكرة، لغرابتها وجمالها، تقبل تأويلات وتفسيرات، وإضافة معانٍ جديدة لها لا يُمكن لغير الفيلم القصير تكثيفها وتجسيدها بهذا الشكل الرائع، الذي قدّمته الفنانة الفلسطينية أسمى غانم، ومساعداها كريستوفر ماريانيتي وألَكسيا ويبستر.
في "السِت"، تضفي ميرغني تنويعاً جديداً على اهتمامها بموضوع المرأة وحريتها. في نصّها الجديد (السيناريو لها أيضاً)، تُعمّق المَحليَّ أكثر، بعد أن أشبعَت ـ في "حلم هند" (2014) و"قافلة" (2016) ـ وجودَها في مناخ صحراوي خليجي، رغم إبقاء هاجس تحوّلات المجتمعات العربية المعاصرة، وتأثيرات الثروة النفطية عليها، موجوداً في متن حكاية "السِت"، متعدّدة المستويات، جامعةً فيها 3 أجيال من السودانيات، يتشابك وجودهنّ مع رؤى ومصالح متقاطعة.
بين جيلين، تقف الشابة نفيسة (ميهاد مرتضى)، التي يرتهن مستقبلها بما يقرّره غيرها. "السِت" (إنتاج سوداني قطري مشترك)، أو الجَدّة، بنفوذها المتعكز على تقاليد وموروثات محلية، يُعزّز مركزها ورغبتها في البقاء سيدة القرار النهائي في القرية السودانية. زعامتها "الأنثوية" ينافسها عليها تيار جديد "ذكوري"، يُمثّله شاب سوداني ثري، مُقيم في بلد خليجي، يريد الزواج من ابنة بلده بطريقة تقليدية. ثقته بتحقيق ما يبغيه تُعزّزها ثروته ومشاريعه الجديدة، التي يريد تأسيسها في القرية. الأم (الجيل الوسط) مُستلبة، يكاد لا يكون لها رأي. تجعل ميرغني من القطبية عنواناً لصراعٍ، أغرب ما فيه أنّ طرفه الأساس يكتفي بالمراقبة، ولا يتدخل فيه مباشرة.
لا تنطق نفيسة بكلمة. تعلن عن رفضها الزواج بالصمت، وبنظرات إيحائية تعبّر عن رغبتها الحقيقية في الاقتران بمن تُحبّ. البساطة مُتناهية، في نصّ سينمائي يستفيد منها لتجاوز شحة إنتاج، لكنّه يعمل ـ بشكلٍ لافت للانتباه ـ على استثمار ما يوفّره الفيلم القصير، للتعبير عن أفكار ومواقف تلامس جوهر تحوّلات اجتماعية وطبقية، يُمكن للمخرجٍة الموهوبة تجسيدها سينمائياً باشتغالات جمالية، يلعب التصوير فيها دوراً مهما (خالد عواد). ما خرجت به السودانية من تقدير في المهرجان يضفي مصداقية على توجّه منظميه إلى منح الفيلم البسيط والجميل فرصة لنيل ما يستحقّه حقاً.