أفلامٌ عربية في "لاموسترا 79": أهمية درامية والإبهار قليل

26 سبتمبر 2022
"روابطنا" لرشدي زم: مقاربة ذكية لأحوال عائلية (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

عقب كلّ مهرجان سينمائي دولي كبير، تُطرح عادةً تساؤلات، وتُثار نقاشات عن حجم الأفلام العربية ومستواها وأهميتها، تلك المُشاركة في أقسامه المختلفة، وعن مدى جدارتها بالمُشاركة، أو أحقيّتها في الحصول على جائزة، إنْ فاز أحدها. بعد اختتام الدورة الـ79 (31 أغسطس/آب ـ 10 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، طُرحت هذه الأسئلة المُعتادة، وإنْ بوتيرة هادئة، وعلى استحياء.

مردّ هذا إلى أنْ أغلب المُشاركات العربية كانت في الأقسام الفرعية، وأنّ الأفلام المعروضة (9 أفلام) لم تكن كلّها عربية بحتة، أي لا يُمكن وصفها بالـ"عربية"، بسبب التداخل الشديد في أمور التمويل والإنتاج، والتمثيل والكتابة والإخراج. فأغلبها مُمَوّل من مؤسّسات أوروبية، وبعضها استعان بمُمثّلين وفنيين أوروبيين. ورغم أنّ الحبكة والمُعالجات المُطروحة والشخصيات تدور حول عرب، أو جاليات عربية في الخارج، أو فئات في المجتمعات العربية، يصعب تصنيفها "عربية" صرفة. يُضاف إلى هذا أنّ بعضها غير معقود على اللغة المنطوقة فيه، أو محسوم بناء على أماكن التصوير، مثلاً، ما يُثير أسئلة متشابكة ومُعقّدة. وهذا ملموس في معظم الأفلام العربية المعروضة في مهرجانات سينمائية مختلفة، مُقامة عام 2022، وأبرزها "مهرجان فينيسيا".

 

عائلات مفكّكة في أوضاع مرتبكة

أول هذه الأفلام "روابطنا"، سادس روائي للجزائري الأصل رشدي زم (المسابقة الرئيسية)، الممثل والمخرج. فيه يضرب، مباشرة وبطريقة مكثّفة للغاية وبحساسية ملحوظة، على أوتار العلاقات الأسرية المُفكّكة بين الأشقاء، خاصة عندما يتقدّم بهم العمر، وتتقطّع بهم السبل، ويكون لكلّ واحد منهم حياته الخاصة. بذكاء ملحوظ، تجنّب السيناريو (رشدي زم وماوين) المشاكل المعهودة، والأنماط المطروقة، والمشاعر المُعتادة في هذا النوع من الدراما. مع تقدّم الأحداث، تقلُب إصابة موسى (سامي بوعجيلة)، بما يُشبه السكتة الدماغية، حياة الجميع حوله. إصابة تُفقده رزانته، وتُخرجه عن أطواره، وتحرفه عن سلوكياته المعتادة مع ابنيه وإخوته، فيحتار الأشقاء، وأوّلهم المذيع التلفزيوني المعروف رياض (رشدي زم).

من هنا، تتمحور الأحداث أكثر حول التباين بينهم، وتحديداّ بين الشقيقين موسى ورياض، ما يُفجر مواقف كثيرة مكبوتة في العائلة الكبيرة، خاصةً في حياة رياض، الذي يُدرك من حوله مدى برودته وأنانيته وابتعاده عن العائلة، بمن فيهم حبيبته ايما (ماوين).

في "آفاق"، قدَّم الممثل والمخرج رشيد حامي فيلمه الروائي الطويل الثاني، "من أجل فرنسا" (أو "من أجل بلدي")، الذي تدور أحداثه حول وفاة الضابط الشاب، الجزائري الأصل، عيسى (شاهين بوميدين)، عبر تدريبات ليلية في إحدى المدارس العسكرية الفرنسية الكبرى. جرى التعامل مع الوفاة كحادثة قتل غير مُتعمّدة، ما أفجع أسرته الصغيرة: والدته نادية (لبنى أزابال)، وشقيقه الأكبر إسماعيل (كريم لكلو)، ووالده عادل (سمير القاسمي)، المُنفصل عنهم منذ عقود.

رغم جودة الفكرة والبناء، وتخطّيه الأنماط المعتادة للطرح، بخصوص الجاليات العربية في المجتمع الفرنسي، لم ينجح رشيد حامي كثيراً، ولم يأت بجديد في سرد العلاقة المُعقّدة بين الشقيقين، وبينهما وبين والدهما البعيد عن الأسرة، بعد قرار أمهما مُغادرة الجزائر. المُشكلة الكبرى عدم استثمار الفكرة الرئيسية على نحو أمثل، فالمخرج لم يمدّ خيوطها حتّى النهاية، ليخلق منها إشكالية درامية فارقة، كان يُمكن أن تكون عاصفة.

بعد وعد الأسرة بجنازة عسكرية لائقة مُشرّفة، يتمّ التراجع عن الوعد، نظراً إلى أنّ القانون العسكري الفرنسي لا يسمح بهذا لمن لم يمت على جبهة القتال، أو في مُهمّة عسكرية. ما يعني أنّه، تقريباً، لم يمت من أجل فرنسا، وبالتالي لا يُسمَح بدفنه في مقابر الشهداء العسكريين. تجهد الأسرة في إقامة الجنازة، لأنّه فرنسي، خدم بلده. في تلك الأثناء، يبتعد الفيلم كثيراً عن قسوة الموضوع، وصرامة القوانين العسكرية، سارداً الحياة القصيرة لعيسى، ومُركّزاً على علاقته بشقيقه ووالده وطفولته، في مَشاهد "فلاش باك" كثيرة وطويلة، بين الجزائر وفرنسا وتايوان، لم تُقدّم جديداً.

من الأفلام المعروضة في "امتداد آفاق"، ويُمكن وصفها بالعربية الخالصة أو غير الأوروبية، "نزوح" للسورية سؤدد كعدان، فيلمها الروائي الثاني، ومُشاركتها الثانية في "مهرجان فينيسيا"، بعد حصولها على "أسد المستقبل" (مسابقة "آفاق")، عن "يوم أضعتُ ظلّي"، في الدورة الـ75 (29 أغسطس/آب ـ 8 سبتمبر/أيلول 2018). مُقارنة بفيلمها الأول، الدائر أيضاً حول الحرب والأوضاع غير المُستقرّة في سورية، يُعتبر "نزوح" متوسط المستوى، فكعدان لم تتطوّر ولم تُقدّم جديداً. تبدأ الأحداث من فكرة مُقنعة عن ربّ أسرة يدعى مُعتز (سامر المصري)، يرفض الانصياع لرغبة زوجته هالة (كندة علوش)، وابنتهما المراهقة زينة (هالة زين) بالرحيل من البلد، لرفضه بشدّة حياة اللجوء والتشرّد والمنفى. ترغب هالة في الالتحاق ببناتها الفارّات من حجيم بلد مُدمَّر، وتأمين مُستقبل مُغاير لزينة. يقف مُعتز، بكلّ تعنّت وصلف، أمام هذه الرغبة، ويفكّر في تزويج زينة من أحد المقاتلين.

هناك إحالات وإسقاطات كثيرة عن التسلّط الذكوري، ومفهوم الحرية، والانغلاق. لكنْ، تدريجياً، ينسلخ "نزوح" بشدة عن أي قوة سينمائية، تارة إلى طرافة ومواقف مُفتعلة وأحداث غير مُقنعة، وطوراّ إلى فانتازيا مُقحمة وساذجة كلياً، تصوّراً وتنفيذاً.

 

غرائز جنسية وحبّ مستحيل

في القسم نفسه، شارك العراقي أحمد ياسين الدراجي بأول فيلم روائي له، "حدائق مُعلّقة"، الذي تدور أحداثه في بغداد، حول الصبي الفقير أسعد (حسين محمد جليل) وشقيقه الأكبر طه (وسام ضياء)، اللذين يعملان في جمع القمامة والبلاستيك لتحقيق كسب يومي، بالكاد يكفي. ذات يوم، يعثر أسعد في مكبٍّ ضخم للنفايات، اسمه "الحدائق المُعلّقة"، على دُمية جنسية شقراء كبيرة، من مُخلّفات إحدى القواعد العسكرية الأميركية. يحتفظ بها، ويُخفيها.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبعد إلحاح صديقه أمير (أكرم علي)، الذي يطالبه باسترداد نقوده، يشرعان في استخدام الدمية وتوظيفها لجني الأموال، بعد تنظيفها وتهيئة المكان والأجواء للمُراهقين والشباب من أبناء الحي والمناطق المجاورة، الباحثين عن أي لذة تُشبِع الغرائز المكبوتة. هذا يُسبِّب لهما مشاكل ومصاعب كثيرة وغير مُتوقَّعة.

رغم جدّية الفكرة، وجرأة الطرح، واختيار صبي في هذه المرحلة العمرية تحديداً لتأدية الدور، يُعاني "حدائق مُعلّقة" مشاكل في المعالجة والعمق. فيه بعض النمطية، وأحيانا تسطيح وكليشيهات، في الأحداث والشخصيات الثانوية، كما في تقديم بعض الأفكار وتصوير بعض المشاهد، خاصة تلك المرتبطة بالاحتلال الأميركي، والإسقاط على التسليع الجنسي، رغم اقتحام المسكوت عنه في مجتمعات عربية مُحافظة، تُعاني ازدواجية وانغلاقاً مُدمّرين.

 

 

في تظاهرة "أيام المُؤلفين"، عُرض "حديد نحاس وبطاريات (قذر صعب وخطر)"، ثاني الأعمال الروائية الطويلة للّبناني وسام شرف، بعد "من السماء" (2017): قصة حبّ مُستحيل بين اللاجئ السوري أحمد (زياد جلاد)، جامع الخردة، واللاجئة الإثيوبية والخادمة المنزلية مهدية (كلارا كوتوريت)، وبحثهما عن الحُرية والأمان، مع طرح عناوين إنسانية عدّة، يُسقطها شرف على الواقع اللبناني، كالقمع والاضطهاد والعنصرية والفقر والهجرة والحبّ المستحيل والحرب. بذكاء لافت للانتباه، وحِرفية ملموسة، استطاع شرف صهر كلّ هذا في قالب فني جذّاب ومُشوّق وموجع وصادق، في رسم الشخصيات، ونسج الحبكة، ومنطق الأحداث وتسلسلها، كما في الخيط الفانتازي. الأهم في "حديد نحاس وبطاريات" انعدام الترهّل والسقوط في فخّ المطروق.

في التظاهرة نفسها، عُرض الجزائري "الأخيرة"، أو "الملكة الأخيرة"، الروائي الأول الطويل لعديلة بن ديمراد وداميان أونوري، كتابةً وإخراجاً. تدور أحداثه في القرن الـ16، في فترة تحوّلات عصيبة في تاريخ الجزائر، مع الأعوام الأولى للتواجد العثماني في البلد، وبدايات الغزو الإسباني لبعض المدن. هذه خلفية درامية تاريخية عريضة للفيلم، بينما الوقائع التاريخية الموكّدة تتأرجح بين اليقين والأسطورة، وفقاً لما كُتب في ختامه.

الزوجة والملكة ظفيرة (عديلة بن ديمراد) يُقتل زوجها غدراً، وهو آخر ملوك الجزائر، سليم التومي (محمد طاهر زاوي). يتميّز الفيلم بالأحداث السريعة المُتلاحقة، والأداء الجيّد جداً، لا سيما بطلته. المَشاهد محكومة في مواقع تصوير مُناسبة، والأزياء مُقنعة، والإضاءة خلقت تناغماً بصرياً رائعاً. وقبل كلّ شيء، اجتهدت المعالجة السينمائية كثيراً للارتقاء به، درامياً وبصرياً، وجنّبته الانزلاق إلى نوع المسلسلات التاريخية.

 

رحلة وخصوصيات غير مكتملة

كذلك عُرض، في التظاهرة نفسها أيضاً، "الملعونون لا يبكون"، للبريطاني المغربي فيصل بوليفا: فيلم درامي بسيط وصادق وغير مُتكلّف، حبكة وأداءً وتشويقاً وحيوية. رحلة الأم المتمرّدة والمتحرّرة فاطمة الزهراء (عائشة تباع)، وابنها المُراهق سليم (عبد الله الحجوجي)، شبه أوديسية، تجعلهما يمرّان في مدن وأماكن كثيرة، وصولاً إلى طنجة. فيها، يتعرّف أحدهما على الآخر عن كثب، ويلمس أحدهما مدى زيف وقسوة وأنانية الآخر، في انكشاف صادق وصادم، يُزيل كلّ الأقنعة، ويُبرز مختلف التناقضات والمسكوت عنه. كلّ هذا، في تقديم جديد وجريء وأصيل لعلاقة غير مُعتادة بين أم وابنها.

يُركِّز "الملعونون لا يبكون"، أكثر، على العلاقة الشائكة جداً بين الأم العاهرة والابن المصدوم، والمُتنازِل عن ضميره، والمدفوع إلى التعهّر بسبب الأوضاع والظروف؛ وأيضاً على أمٍّ تحاول لملمة حياتها، واستعادة ما تبقى منها عبر زواج يفشل قبل اكتماله، وابن يحاول ألاّ ينزلق، أكثر وأكثر، إلى التعهّر وحياة الجريمة والسجن. هناك توازن وتضاد بين عالمين شديدي الحساسية؛ وتقابل بين الشخصيات ومصائرها غير المُتقاطعة، ما مَهَّدَ، مع كلّ خطوة، للمصير المحتوم، الذي آلت إليه الأمور في النهاية.

فكرة الفيلم المصري القصير "صاحبتي"، لكوثر يونس (المعروض في قسم "آفاق للأفلام القصيرة"، ضمن 12 فيلماً قصيراً)، تكاد تكون نسخة مُطابقة من الفيلم المصري القصير "ستاشر" (2020) لسامح علاء، الفائز بـ"السعفة الذهبية للأفلام القصيرة"، في الدورة الـ73 لمهرجان "كانّ" السينمائي، التي كان يُفترض بها أنْ تُقام بين 12 و23 مايو/أيار 2020، قبل تحويلها إلى 3 أيام (27 ـ 29 أكتوبر/تشرين الأول 2020) بسبب تفشّي كورونا.

في "ستاشر (الرقم 16 بالعامية المصرية)"، كان مُبرّر تخفّي البطل بزيّ نسائي مُقنعاً جداً، ليتسنّى له زيارة حبيبته المتوفاة مؤخّراً، وإلقاء نظرة وداع على جثمانها. في "صاحبتي"، يتخفّى عاليا (مارك حجار) في هيئة فتاة كاملة الأناقة والمكياج، ليتمكّن من زيارة حبيبته سارة (إلهام صفي الدين)، وتمضية ليلة معها في حجرتها. هذا لم يتجاوز فكرة التخفّي/التنكّر بحدّ ذاتها إلى ما هو أبعد وأعمق في المستوى الحسي، أو أقلّه في الخصوصية بين الحبيبين. وهذه الخصوصية/الحميمية لم تُستَغلّ حتّى في الحجرة المغلقة عليهما.

المساهمون