تُعدّ أفغانستان، اليوم، أشهر دولة على محرّك البحث "غوغل". ذلك أنّ الرعب الذي أثاره وصول "حركة طالبان" إلى الحكم مُجدّداً، ومشهد الطائرة المُخيف، قادرٌ على إثارة شبيهٍ له في العالم، يُضاهي صُوراً سينمائية صنعتها السينما الهندية منذ ثمانينيات القرن الـ20. وصول "طالبان" إلى الحكم معناه نهاية سرديّة الفن في البلد، رغم ادّعاء الحركة عكس ذلك. قرارات المنع والعنف والتهجير تقول بعض المكبوت السياسيّ في المجتمع الأفغاني المعاصر.
الهند أوّل بلدٍ أجنبي ينتبه إلى شروخ المجتمع الأفغاني ومآزقه، منذ نهاية الثمانينيات الماضية، فأُنتجت أفلام سينمائية وتلفزيونية عدّة عملت على تخييل المُجتمع الأفغاني بطرقٍ مختلفة من التناول والمُعاجلة. الرغبة في اختراق مجتمع الآخر عاملٌ أساس في فهم نيّة السينما الهندية، وإمكانات خلق صداقة الجوار مع الأفغان، بسبب حربٍ شرسة في الإعلام بين الهند وباكستان حول منطقة كشمير. صداقة الأفغان تحمل في طيّاتها دلالات سياسيّة أكثر منها سينمائية أو جمالية. يبدو ذلك جليّاً في أفلامٍ عدّة، أقامت تواشجاتٍ فنية مع المجتمع الأفغاني، إمّا عبر تخييل سيرة ذاتية، أو الاشتغال على حدثٍ سياسيّ أو اجتماعي أفغانيَّين، أو جعله صورة عرضية في مشهدٍ هندي، أو فضاءً مُتخيّلاً للتصوير، ولتغذية جماليّات الصورة بأجسادٍ ومروياتٍ ومؤثّرات صوتية، وبمَشاهد طبيعية تروي سيرة هشّة ومُتواضعة، لكنّها تستجيب جمالياً إلى عنصر الصورة في الفيلم الهندي.
رغم الاختلاف الشاسع بين البلدين، في التركيبة الاجتماعية والنسق الثقافي، يعشق الأفغان الفيلم الهندي. شاشاتهم الصغيرة تكاد لا تُفارق الإعلام الهندي، إذْ يتابعون كلّ ما له علاقة بنجوم التلفزيون والسينما، غير مُكترثين بالصراع الهندي ـ الباكستاني، إلّا بمدى حضوره وتمثّلاته في السينما. ليس غريباً إذا طُرح سؤالٌ عن الأفغان عمّا يعرفونه عن الهند، وعمّا تُمثّله في وعيهم الاجتماعي، فيكون الرد: آميتاب باتشان، نظراً إلى السحر الذي تركته السينما الهندية في وجدان الأفغان أعواماً طويلة، والذي حقّق علاقاتٍ قوية تتجاوز الدبلوماسيات الهشّة للبلد. هذا رغم أنّ المشهد السياسيّ الأفغاني الأخير جعل الهند في وضعٍ حرج، بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، مخافة تداعي ذلك على قضية كشمير.
لذلك، تبدو السينما الهندية معنيّة بما يحصل في أفغانستان وباكستان، أكثر من أيّ منطقةٍ أخرى في العالم. الأفلام كثيرة ومتنوّعة، أهمّها وأشهرها "كابول إكسبريس" (2006) لكبير خان، و"تورباز" (2020) لغِريش مالِك، و"هروب من طالبان" (2003) لأوجال شاتيرجي. أفلامٌ تناولت أحداثاً تقع في أفغانستان، أو على حدودها، مع اختلاف المُنطلقات الأيديولوجية، وزوايا النظر، ودلالات الصورة السينمائية، ومدى تماهيها مع المُتخيَّل السياسيّ الأفغاني.
في "كابول إكسبريس" حكاية صحافيين (جون أبراهام وأرشد وارسي) يُقرّران تصوير قصصٍ ومَشاهد وحكاياتٍ من وسط "طالبان". لكنْ، في طريقهما إليها، يعترضهما رجلٌ من الحركة يُفكّر في اختراق الحدود إلى باكستان، قبل أنْ تَكشف هويته، صدفة، صحافية أميركية (ليندا آرسينيو)، لها المُبتغى نفسه. ذلك كافٍ للرجل كي يبوح بسرّه: كان جندياً في الجيش الباكستاني قبل التحاقه بـ"طالبان"، رغم اختلاف آرائه وتصوّراته عنها، ما جعل ابنته زويا تهجره، وتُقرّر العيش هناك بعيداً عنه.
ليس بلوغ "طالبان" الهدف الأهمّ لكبير خان، بل الطريق الوعرة إليها، وما يشوبها من عنفٍ وتردّد وارتباكٍ. إنّها تسمح له ـ زمنياً ـ بقول ما يُريد عن حكم "طالبان"، ويخطّ لنفسه مساراً جمالياً تشويقياً، يخلو من الدراما، ويقترب من الأفلام الوثائقية.
الصُوَر مُثيرةٌ بجمالياتها، لكنها ليست قويّة كفاية لإنتاج عمل درامي مُؤثّر. النجاح الذي حقّقه الفيلم لم يكُن جمالياً وفنياً، بل لأنّ كبير خان من المخرجين القلائل في الهند ممن يمتلكون جرأة التوغّل في مسام الأنظمة السياسية، وكياناتها التقليدية. في "كابول إكسبريس" تنعدم السينما وتحلّ محلّها إكسسوارات بصريّة، وجماليات الفضاء السينمائيّ، والمخرج يُحاول جعلها منتهاه وخلاصه الجماليّ. القصّة مُثيرة للانتباه، لكنّ طريقة كتابتها عادية، تفتقر إلى الجرأة وطرق أشياء يبابٍ لا يُفكّرٍ بها في الاجتماع الأفغاني. النقد والإحالة على عنف "طالبان" ضرورة أخلاقيّة، لكنّ عدم التفكير فيها بصرياً جعل الصورة تقريرية وفجّة، لا علاقة تربطها بالمُتخيّل السينمائي.
هذا استوعبه غِريش مالِك في "تورباز". هو لا يلهث وراء أفغانستان كموضوع، بل يجعلها مختبراً للتفكير، ومُنطلقاً للبحث عن صورة واقعيّة ـ مُتخيّلة، عبر حكاية طبيبٍ سابقٍ (سانجاي دوت) في مخيّمٍ للاجئين في أفغانستان، يُغيّر حياة الأطفال بفضل لعبة الـ"كريكت". يتميّز الفيلم بقوّة التخييل، وببساطة الأداء. فيلم غير منفعلٍ إزاء أحداث أفغانستان، رغم أنّ فضاءه وخلفياته يقولان بعض هذا العنف المُبطّن في سلوكيات الشخصيات وأقوالها وتفكيرها؛ علماً أنّ شخصية سانجاي دوت غير ملائمة للدور، فهو أشبه بسيلفستر ستالون أو أرنولد شوارزينيغر السينما الهندية. شهرته كبيرة بفضل أفلام الحركة، أكثر من أفلام تاريخيّة أو فكريّة أو واقعية. الشخصية لا تفرض عضلات الممثل، بل قوّة الأداء وبساطته وتغلغله في سيرة الفيلم، كشأن الممثلة وعارضة الأزياء الأميركية نرجس فخري.