أفريقيا... حيرة العلم ويقين السينما

12 نوفمبر 2021
يحضر الإنسان البدائي في الدراما والسينما كبشري أبيض (بوريس سبيرمو/Getty)
+ الخط -

نقرأ في مقال نُشر أخيراً في مجلة "ذي أتلانتيك" عن الحيرة العلميّة والغموض المحيط بأصل الإنسان، أي المنطقة الأولى التي ظهر فيها الـ Homo erectus. النظرية التقليدية تقول إن الإنسان المنتصب ظهر بدايةً في أفريقيا، أو ما يسمى نظرية السافانا، ومنها هاجر إلى باقي أنحاء العالم. هذا ما يبرر الاكتشافات الدائمة لأحفوريات بشرية وحيوانية تتوزع بين الشرق الأوسط، وأقصى آسيا والأميركيتين، بل أصبح الأمر أقرب إلى منافسة من نوع ما، في محاولة للانتصار وتحقيق سبق تاريخيّ، مفاده أن "الإنسان الأوّل، وُجد هنا".

يحاول العلماء، حسب المقالة، إعادة النظر في الأسئلة التي يطرحونها حول الإنسان الأول، والتركيز على "لماذا"؛ أي "لماذا غادر الإنسان الأوّل أفريقيا؟". لكن، ما يثير الاهتمام في هذه الحيرة، هو الترويج ليقين مختلف في الصناعة الثقافيّة. لن نتحدث عن أصل البشر بوصفهم كائنات خلقتها مخلوقات فضائية كونت الإنسان وبنت الأهرامات في مصر، كحالة فيلم "بوابة النجوم" Stargate، بل سنذلل الفرضيات الأخرى، سواء كانت سخيفة أو تحاول توخي الدقة.

أول ما يخطر على البال هو مسلسل الكرتون "ذا فلينستونز" The Flintstones الذي يعود تاريخ إنتاجه إلى الستينيات. لا يحوي العمل دلالة على مكان محدد. نحن أمام أسرة من "العصر الحجري"، أو الإنسان البدائي. وبنظرة سريعة، نكتشف أنه لا يحوي أي شخصية ملوّنة، أي الإنسان "الأصل"، يغلب عليه البياض، ولا نتحدث هنا عن الدقة التاريخية أو العلميّة، بل المتخيل الذي يستثني الفرضية العلميّة، ويقارب "بداية الإنسان" بوصفه أبيض قد يتعرض للاسمرار كما في بعض الحلقات.

الأمر نفسه يطغى على فيلم "10000 ق.م" 10,000 BC، فصيّاد المياميث، وصديقته أيضاً، أبيضان. بالطبع، نكتفي بالإشارة إلى اللون لأنه العلامة الوحيدة التي تدل على الأصل في هذه الحالات، ناهيك أن نظرية "حواء السوداء" هي الأكثر تداولاً، ولا تظهر في الثقافة الشعبية.

سينما ودراما
التحديثات الحية

ينسحب الأمر على المقاربات الكوميديّة، كما في فيلم "العام الأول" Year One؛ إذ تخلو الشاشة من أي لون عدا اللون الأبيض. صحيح أننا هنا أمام فيلم ساخر وساتيري، لكن سؤال "التمثيل" (representation) هنا يرتبط بالمتخيل الذي تقدمه هوليوود لما قبل التاريخ والإنسان الأول. الأمر يتكرر في الفيلم الفرنسي "ررررررر!!!" RRRrrrr!!!، والفيلم الأميركي "ألفا" Alpha.

نتبنى هذه القراءة التي تدّعي الصوابية السياسية، لنقارن بين ما يقدمه "الجدّ"، المتمثل بالعلم ومؤسساته، و"اللاجد" المتمثل بصناعة الترفيه التي عادة ما تتوخى الدقة العلمية حين الخوض في شؤون كهذه، كما في فيلم "إنترستلر" Interstellar، وغيرها من الأفلام التي تقوم حبكتها على أساس "العلم".

هذه اللادقة، أو التجاهل الذي تتسم به صناعة الترفيه، ربما هما امتداد للعنصرية والتحيز اللذين يميزان صناعة السينما؛ فأفلام مثل "كينغ كونغ" King Kong بكل نسخه، و"حول العالم في ثمانين يوماً" Around the World in 80 Days، دوماً تتبنى موقفاً لا يساير العلم، ويوظف المتخيل الاستعماري لرسم صورة الإنسان البدائي أو المختلف. وعند الحديث عن البداية التي نفترض أنها أفريقيا، هناك تجاهل تام لهذه الفرضيّة، من دون تقديم أي متخيل عن سؤالي لماذا أو أين؛ المرتبطين بأصل الإنسان.

ما يثير الاهتمام أيضاً، هو المتخيل الجديد الذي تقدمه هوليوود لأفريقيا وتاريخها؛ متخيل "أبيض" يقدمه الأفارقة الأميركان، لا يخاطب مشاكل القارة السوداء وما شهدته من تاريخ، فهو أقرب إلى محاولة لامتلاك تاريخ تلك المنطقة، وإعادة إنتاجه بصورة فانتازميّة ومتخيّلة، كفيلم "بلاك بانثر" Black Panther، الشأن الذي يثير حنق الكثيرين من سكان أفريقيا، ويرونه شكلاً من أشكال استعمار المُتخيل، على الرغم من بهرجة الأفلام السابقة والأمل والرومانسية التي تحويها، لكنها لا تتبنى متخيل سكان المنطقة عن أنفسهم، بل متخيل سكان قارة أخرى عن أصلهم، وما يمكن أن يكون عليه هذا الأصل لو لم تحدث مأساة العبوديّة.

المساهمون