أم كلثوم وفيروز وأسمهان ووردة أمثلة على الأسماء والمواهب الغنائية البارزة التي اعتادت الأذن العربية على سماع أصواتها. هذه الأسماء الشهيرة ليست مجرد مواهب فريدة أو رائدة في مجالها، بل هي أيقونات ورموز لثقافة عربية مشتركة. وقد انتبه معهد العالم العربي في باريس لهذه القيمة التي تتمتع بها هذه الأصوات، وخصص لها معرضاً قبل سنوات في مقره في العاصمة الفرنسية.
المعرض نفسه الذي حمل عنوان "المغنيات"، يحط رحاله من جديد في عاصمة أوروبية أخرى، إذ يستضيفه حالياً وحتى الثامن من مارس/ آذار المقبل متحف ويرلد في أمستردام، وهو مخصص لثقافات العالم.
يحتفي المتحف الهولندي بهذه المواهب كرموز نسوية بارزة، يُنظر إليها اليوم بمزيج من الشجن والحنين لدى متحدثي العربية في كل مكان.
ويسلط الضوء على أربع من نجمات الغناء البارزات: أم كلثوم وأسمهان ووردة وفيروز. غير أن العرض لا يقتصر على هؤلاء فقط، إذ يتطرق إلى سيرة مغنيات أخريات تألقن في ساحة الغناء منذ العشرينيات وحتى نهاية الستينيات من القرن الماضي. من بين هؤلاء الفنانات منيرة المهدية، وهي واحدة من أبرز الرائدات في مجال الغناء في المنطقة العربية.
ومنيرة المهدية من القلائل اللاتي اقتحمن مجال الغناء في وقت مبكر واستطعن التغلب على سطوة المجتمع الأبوي، كما فتحت المجال أمام غيرها من المواهب النسائية الأخرى التي جاءت من بعدها. فبظهور منيرة المهدية أصبح الحضور الأنثوي في مجال الغناء أمراً معتاداً على الساحة الفنية في القاهرة في مثل هذا الوقت المبكر، كما مهد ظهورها الأجواء لموهبة استثنائية مثل أم كلثوم التي بدأ تألقها الفعلي في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي.
يسهب هذا العرض الزاخر بالصور والأصوات الشجية في استعراض سيرة كل موهبة من هذه المواهب الاستثنائية، كما يفرد مساحة كبيرة لعرض ملصقات الأفلام والصور وأغلفة الأسطوانات وإعلانات الحفلات.
إلى جانب الصور النادرة، يضم المعرض أيضاً بعض المقتنيات الشخصية للفنانات، من قطع الحلي ومقتطفات من صحف تضم مقابلات صحافية، بالإضافة إلى الثياب التي كن يرتدينها على المسرح ومقاطع مصورة من حفلاتهن الغنائية. لا تمثل هذه المقتنيات والصور التي يضمها العرض سرداً شخصياً لهؤلاء الفنانات فقط، بل ترسم مساراً للتاريخ السياسي والاجتماعي في المنطقة العربية.
ينقسم معرض المغنيات إلى أربع مراحل، تبدأ الأولى في القاهرة في عشرينيات القرن الماضي، عندما استطاعت النساء الحصول على مكانتهن في عالم السياسة والثقافة. في هذه الفترة المبكرة، قادت النسويات الأوائل الحركات المطالبة بالمساواة في الحقوق، كما شاركن في النضال ضد الاحتلال البريطاني.
أما القسم الثاني، فيسلط الضوء على أربع مطربات شهيرات، أسرت أصواتهن الملايين في المنطقة العربية، وهن أم كلثوم وأسمهان وفيروز ووردة. يبرز العرض كيف ارتبط التاريخ الشخصي لهؤلاء الفنانات بالحركات التحررية والأحداث الفارقة في المنطقة العربية.
ارتبطت أم كلثوم بالترويج للأفكار الناصرية عن القومية العربية، كما اشتبكت سيرة أسمهان بالصراع بين دول الحلفاء والمحور، أما فيروز فقد مثلت العديد من أغنياتها وقوداً للحركات التحررية في المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، كما ارتبطت السيرة الشخصية لوردة بالنضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي.
لقد عبّر حضور هؤلاء المطربات الأربع البارزات عن القومية العربية، وعكست أصواتهن الرغبة في الوحدة الثقافية بين عواصم المنطقة.
أما القسم الثالث، فيتضمن أمثلة للفنانات اللاتي احترفن التمثيل، مثل فاتن حمامة وسعاد حسني، أو جمعن بين التمثيل والغناء أو الرقص، مثل تحية كاريوكا وسامية جمال وليلى مراد وصباح.
على الرغم من الإشارة إلى المغنيات وحدهن في عنوان المعرض، إلا أن العرض لا يقتصر على المغنيات فقط، أو صاحبات المواهب الفنية، إذ يلفت المعرض الانتباه في القسم الرابع إلى نضال العديد من الشخصيات النسائية في المنطقة العربية، مثل روز اليوسف وهدى شعراوي.
وروز اليوسف هي ممثلة مسرحية لبنانية ومحررة صحافية استقرت في القاهرة في عشرينيات القرن الماضي. أسست اليوسف مجلة سياسية تحولت إلى مؤسسة صحافية لا تزال تحمل اسمها حتى اليوم. أما هدى شعراوي فقد ارتبط اسمها بالنضال من أجل تحرر المرأة من القيود الاجتماعية والدفاع عن حق النساء في العمل في المجال العام.
معرض المغنيات يقدم سرداً بصرياً لسيرة مفعمة بالشجن والحنين لنساء عربيات استطعن تبوّء مكان الصدارة في مجالاتهن المختلفة، وجمعن حولهن قلوب الملايين من الناس، وما زلن حتى اليوم يمثلن مصدراً للإلهام.