كائنٌ يسبح بخفة قرب سطح الماء، بينما تتراقص أشعة الشمس مع الموج الخفيف فوق جلده الناعم، وتنبعث مع أنفاسه ألوان قوس قزح التي تكونت بفعل انكسار الضوء في قطرات الماء المتطايرة مع زفيره. ماذا يلزم من الحوت أكثر من ذلك كي يحظى بإعجاب واحترام البشر؟
مخرج "تيتانك" و"أفاتار"، الأميركي جيمس كاميرون، يقول إنه من الضروري أن يعرف الناس أن للحيتان "ثقافة"، كما للإنسان، بمعنى أنها تتعلم وتنقل المعرفة من جيل إلى آخر، كما أنها ترتبط ببعضها بعضاً عبر علاقات قرابة وصداقة، ولديها لغة وموسيقى خاصة، تتواصل من خلالها. هذه "الثقافة" لدى الحيتان، هي موضوع سلسلة جديدة أنتجها كاميرون لصالح شبكة "ديزني" بالتعاون مع "ناشونال جيوغرافيك"، بعنوان "أسرار الحيتان".
كاميرون (يبدو أن شباك التذاكر سمّاه كثالث أغنى مخرج في العالم)، معروف بمغامراته تحت الماء. في عام 2012، تعاون مع "ناشونال جيوغرافيك" ليسجل لنفسه إنجازًا تاريخيًا ببلوغه أعمق نقطة في العالم، بواسطة غواصة استغرق بناؤها سبعة أعوام، هبطت به إلى بقعة "ماريانا" غرب المحيط الهادئ. حينها، قال إنه مضى في هذه المغامرة ليفعل "ما لم تفعله الحكومات"، وليساهم من أجل العلم والمعرفة للكشف عن أشكال الحياة في أعمق نقطة في العالم.
بحسب كاميرون، فإن لسلسلته هذه، أيضًا، هدفًا نبيلًا يتمثّل في خدمة الحيتان والبيئة من خلال تشجيع الناس على محبة الحيتان وحمايتها. يقول في إحدى المقابلات: "أعتقد أنه من المهم لنا أن نحب ونحترم هذه الحيوانات، لأنه لا يحظى بحمايتنا إلا من نحبهم ونحترمهم".
افتتاحية السلسلة تحكي عن الأوركا، أو ما يُسمّى بـ الحيتان القاتلة. والشائع أنها اكتسبت اسمها الأخير من بحارة قدماء رأوها تفترس حوتًا، فأسموها قاتلة الحيتان. حظيت الأوركا بكثير من الاهتمام في السابق، وصُوّرت العديد من الوثائقيات حولها. هذا لأنها بالفعل -ولسوء حظها- محببة لدى الإنسان، وتُستغل هذه المحبة في تجارة الترفيه، في الولايات المتحدة خاصةً، من خلال أسر هذه الكائنات في أحواض خاصة وتدريبها لتأدية عروض بهلوانية أمام المتفرجين من محبي الأوركا.
ناقشت وثائقيات أخرى استغلال البشر لهذه الحيوانات، منها الوثائقي الأميركي "السمكة السوداء" (2013). لكن الحلقة المخصصة للأوركا في "سلسلة الحيتان"، لا تأتي على ذكر أي من تأثير مخاطر صيد هذه الكائنات بهدف الترفيه، أو على ما تتعلمه وتتناقله عن تجربتها مع الإنسان.
يقول كاميرون إنه يفضل جذب الجمهور بدلاً من تنفيره باللوم والذنب؛ لأنه حين يعي المشاهد، برأي صنّاع السلسلة، بأن للحوت ثقافة تشبه ثقافته، وأنه كائن يتمتع بالذكاء "مثل الإنسان"، عندها فقط سيحترم هذه الكائنات ويحميها. فرْض هذه القراءة للحيتان على سردية السلسلة، يجعلها تبدو سطحية ودرامية بشكل مفتعل أحيانًا، رغم أنها بلا شك مليئة باللقطات الجميلة، وفيها لحظات نادرة لم تصوّر من قبل.
الإنسان في السلسلة يتّخذ موضع مراقب خارجي بعيد، ينظر إلى الطبيعة ويتعجّب من سلوكيات كائناتها، لكنه يظل "الأذكى" من كل الكائنات الأخرى فيها. إذا فاتنا ذلك خلال الحلقة، سيطل علينا كاميرون في نهايتها، ليقولها صراحةً، بعد أن يعيد سرد أهم اللقطات التي سبق وشاهدناها، من دون أن يقدم أي إضافة جديدة في تعليقه، سوى رأيه الخاص الذي يُفسر سلوك الأوركا البرية تجاه الإنسان على أنه تقدير منها لذكائه! يقول عن سبب عدم مهاجمة الأوركا في البرية للإنسان: "لا يسعني إلا أن أنسب ذلك لتمييزها للسلوك الذكي فينا، واحترامها أو إعجابها بذلك". يقول أيضًا: "لا بد أنها ترانا بشكل مختلف جدًا عن أي شيء آخر في المحيط".. هل تعلم الحيتان، أيضًا، أنه ذو ثروة تبلغ 700 مليون دولار؟ ما قد يزيد من احترامها له؟
يصرّ العمل على إحداث مقاربة بين هذه الكائنات والإنسان
تُذكّر افتتاحية السلسلة، بوثائقي آخر يحمل عنوان "رجل بين الأوركا" (2006)، بطله المصوّر ديفيد ريتشيرت، الذي يريد أيضًا كشف الأسرار عن أوركا تتغذى على الفقمات، لكن من زاوية مختلفة، ربما أكثر واقعية وتواضعًا. يلتزم ريتشيرت التصوير في مكان واحد فقط، فينصب خيمته على شاطئ في إحدى جزر كروزيت، ويقضي فيها أربعة أشهر ينتظر الأوركا.
يصور ريتشيرت الأوركا من اليابسة، ويعطينا إحساساً واقعياً بصعوبة الوصول إلى الحيتان البرية. نشعر بالوقت وهو يمرّ على ريتشيرت، الذي يجلس مع الفقمات وينتظر بصبر مجيء الأوركا، إلى أن يقرر بعد طول انتظار النزول إلى الماء بحثًا عنها. في هذا الفيلم، نشعر ببرية الأوركا، كذلك نرى الإنسان (المصور) كجزء من المشهد، نراه يحاول ويفشل قبل أن يحالفه الحظ أخيرًا بلقاء الحيتان.
في سلسلة "أسرار الحيتان"، يبدو الحظ وافرًا. السلسلة مصنوعة بشكل احترافي ولها زاوية وسردية واضحة ومحددة. ورغم صعوبة تصوير كائنات بحرية كبيرة داخل الماء، تقدم لقطات مميزة بجودة عالية. كما أنها تقدم العديد من المعلومات الجديدة لمن لا يعرف شيئًا عن الحيتان من قبل. لكن التأكيد على أن للحيتان ثقافة ولغة ومشاعر كما للإنسان، هو أمر لا يمكن تعزيزه في هذا الوثائقي، إلا من خلال التعليق الذي تؤديه الممثلة سيغورني ويفر، وهي أيضًا إحدى بطلات سلسلة "أفاتار".
في الحلقة الثالثة مثلاً، المخصصة للحديث عن الحوت الأبيض أو "البلوغة"، نرى حوتًا من نوع "تأمور" يسبح وحده، فتقول لنا ويفر إنه ضلّ طريقه وفقد مجموعته، ثم نراه يسبح مع مجموعة من حيتان "البلوغة". تطرح ويفر سؤالًا دراميًا: "هل ستتبنى البلوغة هذا الحوت الوحيد الضال؟". تخبرنا أنها إن لم تتبنه، ففرصته بالبقاء على قيد الحياة ستكون ضعيفة.
من خلال تعليقها، نعرف أيضًا أن فصل الشتاء قد مرّ، فهل لا يزال التأمور على قيد الحياة؟ ثم نراه ونسمع الموسيقى الدرامية السعيدة. قصة تبني هذا الحوت تعتمد بشكل كلي على تعليق ويفر، التي تختتم الحلقة باستنتاج وجود "ثقافة" لدى "البلوغة" التي قبلت بحوت غريب عنها وضمته للفريق. لكننا لا نعرف ما هي "الأسرار" داخل هذا الفريق أو ما مرّ به، ذلك على الأرجح بسبب صعوبة التصوير داخل الماء، وكثرة الأماكن التي كان على فريق التصوير زيارتها. لكن كثرة التكرار في التعليق عن "كشف الأسرار" جعلنا نتوقع من السلسلة أكثر مما فيها.
توجد في المحيطات العشرات من أنواع الحيتان، لكن السلسلة تركز على أربعة منها فقط، من خلال أربع حلقات، كل واحدة مخصصة بشكل أساسي لنوع واحد. ولا يُعرف لماذا تم اختيار هذه الأنواع بالتحديد، لكن السبب على الأرجح يعود إلى إمكانية تصوير ما يلزم لبناء قصة متكاملة عن "ثقافة الحيتان"، ولهذا السبب، ربما، غاب عنها الحوت الأزرق.
الحلقة الرابعة، تحمل نفس عنوان وثائقي أطلقته "بي بي سي" عام 2011، عن الحيتان العملاقة في المحيط؛ "عمالقة المحيط". لكنها مخصصة فقط لحيتان العنبر، من دون ذكر للعملاق الأكبر في المحيط وفي العالم على مر العصور، "الحوت الأزرق". لا يظهر الحوت الأزرق في "أسرار الحيتان" ربما لأنه يصعب تصوير هذا الحوت وتتبعه والاقتراب منه، أو ربما لأن الحيتان الزرقاء لا تتجول في مجموعات تتخذ شكل "عائلات". لكن، من دون شك، الحوت الأزرق ربما الأكثر غموضًا بين الحيتان، ويعرف أنه أكبر كائن حي عاش على وجه الأرض، أي أنه أكبر من أكبر الديناصورات، والمعروف أنه يتغذى فقط على واحد من أصغر الكائنات وهو "الكريل". الحيتان بشكل عام عملاقة لأنها تعيش في الماء الذي يخفف من أثر الجاذبية.