أسئلة المهرجانات العربية: اضطرابات لامتناهية

19 أكتوبر 2021
العراقية زهرة غندور في "الجونة": سياحة وسينما (عمّار عبد ربّه/ فرانس برس)
+ الخط -

 

يحفل كلّ عام بمهرجانات سينمائية عربيّة، معظمها يُقام في مدنٍ عربية. وفرتها تطرح سؤالاً، يتوزّع على أهدافها ومنطلقاتها وتأثيراتها ونتائجها ومواقعها واختصاصاتها وتمويلها ـ ميزانياتها، وهذان التمويل والميزانية يندر الاعتراف بهما علناً. بعضها دولي، أي أنّه منفتح على سينمات مقبلة من جنسيات إنتاجية مختلفة، تُعرض أفلامها إلى جانب أفلامٍ مُنتجة في دول عربية وغربية، بأموال عربية و/ أو غربية، أو مشتركة بين العربي والغربي. الاختصاصات عديدة. المحلي فيها طاغٍ، والمنفتح على الجغرافيا الواسعة قليلٌ. بعضها يتّخذ من السياحي ركيزةً، من دون أنْ يحول بعض السياحي دون بهجة السينما ومُتعها واشتغالاتها وتساؤلاتها، وهذا نادرٌ، فالسياحي أقوى، وهذا حاضرٌ في منشورات صادرة عن تلك المهرجانات، تُرحِّب بالضيوف والمدعوين، متمنّية لهم إقامة سياحية مريحة وهادئة. بعضٌ آخر يُفضِّل عزلةً، لن تمنع فعلاً سينمائياً بحتاً، بل تُعمّقه أحياناً، مع اختفاء كامل، أو شبه كامل، للاستعراض والأضواء والنجوم والسجّاد الأحمر والحفلات الليلية.

 

غلبة السياحي

الربع الأخير من كلّ عام تحديداً يُشكِّل، في عالمٍ عربي مُصاب بإحباطات وانهيارات وانكسارات وأزمات، متنفّساً، عبر سينما غير منغلقة وغير منعزلة وغير متقوقعة. رغم هذا، لن تكون المهرجانات كلّها ـ المُقامة في تلك الفترة من كلّ عام، كما في فتراتٍ أخرى ومدنٍ متفرّقة ـ مُصانة بتنظيمٍ يُريح المدعوين ويحثّهم، في الوقت نفسه، على اكتشافاتٍ واختبارات، يمزج بعضها بين السينمائي والسياحي، ومحصّنة بمعرفة وافية في إدارة سوية، يُفترض بها ألاّ تُخطئ، خصوصاً في مسائل تُعتبر أساسية، وتنفيذها غير محتاج إلى نباهة وأموال، لشدّة بساطتها.

التفاصيل، التي يُظَنّ أحياناً أنّها غير مهمّة، تمتلك حقّها في أنْ تكون مهمّة، بينما منظّمون عديدون يتجاهلونها، قصداً وهذا نادرٌ، أو من دون قصد، وهذا دليل جهلٍ وقلّة تجربة وانعدام تنبّه إلى قواعد أساسية وسهلة، يُفترض بهؤلاء، أو ببعضهم على الأقلّ، إدراكها، بفضل مشاركاتٍ لهم في مهرجانات دولية، مُصنّفة فئة أولى.

لكنّ العالم العربي منهار في جوانب عيشه ويومياته، ما يؤثّر سلباً على مهرجانات سينمائية عدّة تُقام في مدنه. بعض دوله يمتلك صناعة سينمائية، كمصر والمغرب وتونس. دولٌ أخرى تجهد في تحقيق أفلامٍ، لبعضها حضور وتأثير أعمق وأهم وأكبر من بعضٍ آخر. الاختصاصات مطلوبة، رغم أنّ نقاداً وعاملين/ عاملات في صناعة السينما يتجنّبون الاختصاص، مُفضّلين انفتاحاً على كلّ الأنواع والأشكال والتصنيفات، فالشرط الأساسي أنْ تكون الأفلام سينمائية، وأنْ تستوفي شروط الصنيع السينمائي.

رغم هذا، يبدو مؤسّسو مهرجانات عربية ومدراؤها غير مكترثين بشيءٍ، باستثناء تقديم أنفسهم كمؤسّسي مهرجانات ومدرائها، فيُسافرون ويُشاركون في محافل واحتفالات، ويلتقون كثيرين، وبين الكثيرين ربما يكون هناك مموّل أو منتج، يتمكّنون من الفوز بشيءٍ من كَرَمِه.

قارئ تعليق كهذا ربما يُطالب بأسماء، وهذا حقّ. لكنّ ذكر أسماء من دون تأكيد على فعلٍ غير سينمائي في مهرجان يحمل اسماً سينمائياً، يُصبح اتّهاماً من دون أدلّة. هذا غير متعلّق بتهرّب من ذكر أسماء، بل بواقع. هذا يُشبه ما يحصل دائماً في صناعة السينما العربية أيضاً: مشاريع ضخمة تُقدَّم لجهات إنتاجية، بعضها عربي، وبعد الحصول على تمويل أو شيءٍ منه، أو على إنتاج أو بعضه، يختفي المشروع، أو يُنفَّذ قليلٌ منه. مشاريع منها ترفع عناوين مُثيرة لانتباهٍ إنتاجي، معظمه غربي، مع أنّ الغرب غير جاهلٍ أفعالاً "تشبيحية" عربية، فمشاريع عدّة تُقدَّم باسم الحرب الأسدية ضد شعبٍ وبلدٍ، أو تخريبٍ حاصلٍ في اليمن أو لبنان، أو مقاومة فلسطينية لاحتلال إسرائيلي، إلخ. عناوين كهذه تُغري جهات إنتاجية، لكنّ التنفيذ غير متساوٍ والمشاريع المُقدَّمة، وهذا غير دائمٍ طبعاً.

 

 

عدم ذكر أسماء نابعٌ، أيضاً، من التزامٍ بصداقات تربط مدراء مهرجانات بنقاد وصحافيين قلائل. يظنّ مدراء أنّ الصداقة حاجزٌ يمنع انتقاداً وتوضيحاً وسجالاً، يحتاج إليها كلّ فعل سينمائي، والمهرجان فعل سينمائي بامتياز. الدعوات المتضمّنة توفير كلّ شيء لناقد وصحافي، من دون مقابل مالي، تحتوي على نوعٍ من رشوة مبطّنة، إذْ يخجل نقاد وصحافيون من انتقاد وتوضيح وسجال، أو لا يجرأون، مع أنّ بعضهم غير مكترثٍ بـ"دعوة مجانية" كهذه، فيقول ويطرح ملاحظات نقدية، وبعض آخر يتردّد في إثارة نقاشٍ مطلوب، لمعرفته بأنّ مدراء مهرجانات عربية يريدون الأحسن لها، لكنّهم يصطدمون بعوائق كثيرة، أبرزها وأخطرها "صاحب" المهرجان، وهو مموّله في آن واحد، وحاشيته.

هناك مشكلة أخرى، تتعلّق بجنسية مدير هذا المهرجان أو ذاك: في مصر، يستحيل لأي عربيّ أنْ يبرع في تأدية وظيفته مديراً لمهرجان مصري دولي، طالما أنّه يتعامل مع مصريين في مناصب أكبر منه، ومعظم هؤلاء غير مُدرك معنى إدارة مهرجان وأهميته ودوره في الاجتماع والثقافة والفنون، والصناعة السينمائية بحدّ ذاتها. يعاني مدراء مهرجانات ضغوطاً شتّى من أصحابها ـ مموّليها. هناك أيضاً عاملون وعاملات في مجالات مختلفة، يجهدون في سعيهم اليومي إلى تأدية واجبهم كما يجب، لكنّهم يعانون قرارات استنسابية من صاحب المهرجان ومموّله، ومن حاشيته المستلمة مناصب أعلى. هذا صعبٌ. هذا قاسٍ. هذا غير مهنيّ البتّة.

 

لا مواجهة ولا نقاش

لذا، يُفضِّل الناقد ألاّ يواجِه مهرجاناً كهذا، مليئاً بأخطاء وهنات وخلل، لإدراكه أنّ مديراً عربياً في منصبٍ أساسي في مهرجان مصري مثلاً غير قادر على ترتيب الأمور، أو ربما يكون موافقاً على الانخراط في لعبة المصالح والعلاقات. والناقد يُدرك أنْ جنوداً مجهولين يبذلون كلّ ما لديهم من أجل صورة أفضل للمهرجان، وبعض النافذين فيه غير آبه بهم وبما يفعلون. يُفضِّل الناقد حصر كتاباته بأفلامٍ وحوارات، أو بمسائل تُطرح في لقاءات وجلسات، بعيداً عن فكرة المهرجان وعلله الكثيرة. هذا غير مهني، بل منافٍ للمهنة ربما. لكنّ الناقد يلجأ إلى أسلوبٍ كهذا، لقناعته بأنّ الكتابة عن الأفلام وإجراء حوارات ومتابعة مسائل مختلفة جزءٌ من مهنته، ولمعرفته بأنّ كل نقدٍ إزاء علل وهنات وخلل في المهرجان لن يُغيِّر شيئاً.

لذا، يقول نقاد وصحافيون قلائل بضرورة إلغاء "الدعوات المجانية"، كما يحصل في مهرجانات دولية عدّة، ففي الإلغاء متنفّس أكبر، شرط أنْ يكون "صاحب" المهرجان العربي ومموّله منفتحاً على رأي يُريد نقاشاً ويُضيء على مشكلة، وهذا صعب، أو مستحيل. "الدعوات المجانية" تمنح المهرجان وصاحبه ـ مموّله مديحاً يريده في مشهدٍ عربي يعتاد المديح فقط، وينفر من كل رأي مخالف، والاختلاف مهموم بتطويرٍ وبلورةٍ وتقدّم، وصاحب المهرجان ومموّله غير آبهٍ بتطوير وبلورة وتقدّم، فالمهرجان بالنسبة إليه امتياز اجتماعي لا أكثر.

لوفرتها، تحتاج المهرجانات السينمائية العربية، المُقامة في مدنٍ عربية وأجنبية، إلى أكثر من دراسة وتحليل. التماهي ببعض الغرب غير مُبرَّر، بل مُسيء إلى السينما والجغرافيا العربية، وإلى مفهوم المهرجان وضرورته وأهميته. الرغبة في تشابهٍ مع الغرب مُضرّ، إنْ لم يكن قاتلاً. لكنّ الاستفادة من تجارب الغرب في صُنع مهرجانات سينمائية عربية مُلحّ، من دون أي تماهٍ أو دونية. المأزق أنّ مهرجانات عربية عدّة تستقي من الغرب بهرجة وأضواء وسجّاداً أحمر واستعراضات، بينما الأساسي، كالفعل المؤسّساتي المتكامل، غير موجودٍ، وهذا مقتل المهرجانات العربية، وبعضها خاضع لابتزاز سلطات حاكمة، وبعضه الآخر مرتبطٌ بشخص المموّل، الذي يبغي بهرجة وأضواء وسجّاداً أحمر واستعراضات، ولا شيء آخر، على حساب السينما، أو أقلّه على حساب بديهيات جوهرية في صناعة المهرجان، كالتنظيم، وإصدار المطبوعات قبل بدء كلّ دورة، وآليات تشكيل لجان التحكيم، ومدى مصداقية المُشاركين فيها، مثلاً.

إذْ كيف يُعقل أنْ يبلغ مهرجان عربي عامه الخامس أو العاشر، والأخطاء نفسها تتكرّر دورة تلو أخرى؟ هناك نكتة متداولة زمن "مهرجان دمشق السينمائي"، في أعوامٍ سابقة: "كاتالوغ" هذه الدورة يصدر في الدورة المقبلة بعد عامين. فالبيروقراطية قاتلة في نظام شمولي غير آبهٍ بثقافة وفنون. لكنْ، أيجوز أنْ يطغى فعلٌ كهذا في مهرجانات حديثة؟ أيجوز أنْ يُشبه مهرجان ـ يُقام في عصرٍ متطوّر، تقنياً على الأقل، وفي مدنٍ يمتلك بعض ناسها حِرفية وقدرات على ابتكار المهمّ والأفضل ـ مهرجانات سابقة، تعاني وهناً وعجزاً وخراباً في زمن قديم؟

 

 

المعضلة كامنةٌ في أنْ الاجتماع العربي مُصابٌ بوهن وعجز وخراب، لأنّ سلطاتٍ حاكمة تبغي ضربه لاستمرار حُكمها، ولأنّ أثرياء يريدون المهرجان واجهة إعلامية لهم على حساب السينما، التي يتباهون بحبّهم لها، ولعلّهم يحبّونها فعلاً، لكنّهم غير عارفين قواعد المهرجان وأصوله وآلياته، ويُفضّلون إمّا استغلال عارفٍ من دون منحه حرية كاملة للعمل، وإمّا التعاون مع غير العارف، فهو يُريحهم من كلّ همّ، لعدم اعتراضه على أيّ شيء، ولعدم اهتمامه بمعنى المهرجان وحُسن سلوكه. أثرياء يصرفون أموالاً طائلة على "نجوم/ نجمات"، وحفلات وسهرات ومسائل لا علاقة لها بالسينما كفن وثقافة وصناعة، ويبخلون على عارفٍ بالمهنة يريد شيئاً نافعاً من أموالهم لتنظيم مهرجان بحسب أصول التنظيم والعمل.

 

ملاحظات

هذا غير شاملٍ كلّ المهرجانات السينمائية العربية، فبعضها فعّال وضروري، وفعاليته منبثقة من تمكّنه في إتاحة فرصةٍ لعرض أفلامٍ غير مقبولة في الصالات التجارية، وفي منح سينمائيين وسينمائيات مساحةً لتقديم ما لديهم من أفكارٍ ومشاريع، وبعضهم يحصل على منحٍ تمويلية يوفّرها هذا المهرجان أو ذاك، وإنْ بمبالغ قليلة وشروطٍ أكثر.

المكتوب أعلاه ملاحظات تبغي نقداً، وترغب في نقاشٍ. المهرجانات السينمائية العربية كثيرةٌ، والمغرب أكثر الدول العربية الشاهدة على وفرة المهرجانات، ومعظمها غير معروفٍ وغير مهمّ وغير مؤثّر وغير ذي فائدة، باستثناء مصالح شخصية وعلاقات عامة. تحاول مصر أنْ تتجنّب هذا، لكنّ مهرجانات تُقام في مدن مختلفة فيها مُصابة بعطبٍ أو أكثر، لعجزها عن الخروج من وهج الهالة، التي يُظنّ أنّ مهرجانات كهذه تمنحها لمؤسّسين ومديرين ومشرفين ومنتفعين، وهذا كلّه حاصلٌ في المغرب أيضاً. المهرجانات التاريخية فاقدةٌ لكلّ معنى أو فعل، كتلك المُقامة في دمشق والقاهرة وقرطاج زمن الاجتهادات الثقافية والفنية والفكرية والإيديولوجية، مع أنّ مدراء جدداً لبعضها، المستمرّ في زمن الانهيارات الكثيرة، يُحاولون انتشالها من وهنها وخرابها وحُطامها، من دون فائدة، فالعجز والشيخوخة ضاربان فيها حتّى الموت.

ملاحظات كهذه غير حاسمة، فالحسم إلغاء لكلّ نقاشٍ وتفكير. زملاء مهنة يطرحون المسألة بين حين وآخر، وإنْ من دون إثارة فعلية لنقاشٍ مطلوب. فهل هناك من يهتمّ ويكترث؟

المساهمون