مع تولّيه رئاسة الجزائر، في 19 ديسمبر/كانون الأول 2019، أطلق الرئيس عبد المجيد تبون وعوداً ومشاريع عدّة لإنعاش السينما الجزائرية، وتحويلها إلى صناعة متكاملة. ومع تشكيل أول حكومة له، استحدث منصب كاتب دولة لدى وزارة الثقافة والفنون، مُكلَّف بالصناعة السينماتوغرافية والإنتاج الثقافي، عَيَّن له الممثل يوسف سحايري، الذي يعرف الواقع السينمائي جيّداً، انطلاقاً من عمله ومشاركته، كممثل، في أعمالٍ عدّة.
بعد تعيين سحايري، أعدّ خريطة شاملة، حدّد فيها مستقبل هذا الفن ومعالمه، بعد بحثه في أسباب تقدّم بعض الدول سينمائياً، دارساً خطواتها وقوانينها، ومُسْقِطاً على الواقع السينمائي الجزائري ما يُناسبه. كما استمع إلى العاملين في القطاع، واطّلع على مقترحاتهم، واختار منها ما يتناسب مع السينما ويخدمها، طارحاً مشاريع مختلفة.
لكنْ، بسبب مؤامرات وحسابات ضيقة لبعض المسؤولين، تَمّ تعطيل هذه المشاريع برميها في الأدراج، وعدم دراستها كما ينبغي، لتقديمها إلى الحكومة للمُصادقة عليها بعد مناقشتها. تعطيلٌ أريد منه إظهار يوسف سحايري كأنّه لا يقوم بدوره. إضافة إلى تصرّفات أخرى، حالت دون أنْ تتحقّق مشاريعه. هذا لم يرق لكاتب الدولة، فبات يُرسل مشاريعه مباشرة إلى الحكومة، بعد أنْ وجد إهمالاً وعدم جديّة، ولضمان وصولها ودراستها، فاعتُبر ما فعله تجاوزاً لصلاحيات وزارة الثقافة والفنون، التي كانت تترأسها مليكة بن دودة. بعد هذا، بدأ صراع على النفوذ، وإرسال التقارير السوداء، ما أدّى إلى تنحيته، وإلغاء منصب كاتب دولة مُكلّف بالصناعة السينماتوغرافية، مطلع عام 2021، فإذا بالسينما تُصبح الخاسر الوحيد في هذه اللعبة السياسية.
واصلت الرئاسة الجزائرية إصدار المراسيم والتعليمات، وإعادة هيكلة قطاعات ومراكز سينمائية، منها مثلاً إطلاق مبادرات وإصدار مراسيم، ومنها: مرسوم تحويل ملكية قاعات السينما من البلديات إلى وزارة الثقافة والفنون، لاستغلالها من المؤسّسات التي تتبعها، وإعطائها الصلاحية اللازمة لتقديمها، عبر الامتياز، لمتعاملين اقتصاديين يعملون في القطاعين العام والخاص؛ وإصدار مرسوم لإنشاء "مركز وطني للصناعة السينماتوغرافية"، يتكفّل بـ"إنجاز مشاريع المدن السينمائية، والمنشآت الصناعية المتخصّصة في مهن السمعي البصري وتسييرها"، و"القيام بالإنتاج والإنتاج المشترك، وإعادة الإنتاج والاستغلال، وتصدير واستيراد وبيع واستئجار الأعمال السينماتوغرافية والسمعية البصرية، وضمان توزيعها ونشرها واستغلالها على كلّ الدعائم في السوق الوطنية والدولية".
كما استحُدث، في إبريل/نيسان 2021، منصب استشاري جديد في ديوان الرئاسة، باسم "مستشار مكلّف بالثقافة والسمعي البصري"، منح للمخرج أحمد راشدي، للعمل على مشاريع عدّة، أهمها: "ترقية مكانة الجزائر، بكلّ الوسائل، كوجهة للصناعة السينمائية والسمعية البصرية الدولية"، و"ضمان التنوّع في العروض السينماتوغرافية"، و"استغلال قاعات العرض السينمائية للنهوض بالأعمال السينمائية"، وغيرها.
مؤامرات وحسابات ضيقة لبعض المسؤولين، عطّلت المشاريع السينمائية
رغم هذه المشاريع والاستحداثات في المناصب والأهداف والقوانين والمراسيم، لا تزال الصالات السينمائية مغلقة أمام الجمهور، الذي هجرها منذ أكثر من 22 عاماً، والتي باتت مقرّاً للجرذان والغبار، وفي أفضل الأحوال فضاء لنشاطات سياسية وجمعوية. ولا تزال الجزائر بلا مهرجانات سينمائية، منذ أكثر من 3 أعوام، إذْ توقّف فيها "مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي"، و"مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي"، و"مهرجان الفيلم المغاربي"، و"مهرجان تاغيت للفيلم القصير"، و"مهرجان الفيلم الملتزم". حجّة الاختفاء كامنةٌ في إعادة صوغ قوانين جديدة، وتراكم الديون، وشبهات فساد تحوم حولها. لكنّها حججٌ واهية وغير مُقنعة بالنسبة إلى كثيرين، لأنّ المؤسّسات الرسمية قادرةٌ على حلّ هذه المشاكل، وإعادة المهرجانات لتكون واجهة سينمائية، كغيرها في البلدان العربية، التي لديها أزمات اقتصادية عدّة. في المقابل، تُنظَّم مهرجانات سينمائية، تحوّلت إلى واجهة ثقافية وسياحية مهمّة.
ما زاد الطينة بلّة، وقضى على ما تبقى من السينما الجزائرية، حَلّ "الصندوق الوطني لتطوير السينماتوغرافية وترقية الفنون والآداب ـ فيداتيك"، ما أثار سخط صنّاع أفلامٍ عديدين وسخريتهم، فهذا الصندوق الجهة الوحيدة التي تُقدّم مساعدات مالية للمنتجين، في ظلّ إحجام القطاع الخاص والمؤسّسات الأخرى على دعم هذا الفنّ.
في الاجتماع الأخير، المنعقد قبل أسابيع قليلة، الحاصل مع صورية مولوجي، وزيرة الثقافة والفنون، وبعض المنتجين، تمّ إقرار تمديد صلاحية هذا الصندوق، مع إصرار الوزيرة على استرجاع الأموال من المنتجين، الذين لم ينجزوا أفلامهم منذ أعوام، رغم حصولهم على منح مالية. كما أُقرّ إطلاق مشروع إنشاء "المعهد الوطني العالي للسينما"، في هيكل جديد سيُطلق قريباً، لدعم وتكوين وخلق أطر لصناعة السينما في المستقبل، و"مركز الأرشيف السينمائي"، للحفاظ على الموروث السمعي البصري ورقمنته وحفظه.
مشاريع كثيرة أطلقتها مولوجي، منذ بداية عملها وزيرة، لتأسيس حركة سينمائية نوعية وناضجة. لكن نتائج المشاريع لن تظهر قريباً، لأنّها ممتدّة على المديين المتوسّط والطويل. الراهن السينمائي يعاني، في ظلّ العزلة السينمائية التي تعيشها الجزائر حالياً، إذْ لا يوجد فضاء يجمع السينمائيين المحليين والأجانب، لعقد شراكات فنية، وخلقها، والاطّلاع على جديد الأفلام، والمهرجانات السينمائية توفّر هذه المعطيات.
من شأن الغياب الذي طال، أنْ يحدّ من الزخم الذي تصنعه الجزائر، بفضل أفلامها ومهرجاناتها وتاريخها. وكلّما طالت العزلة الدولية، زادت القطيعة الثقافية. لذا، طُرحت أسئلة كثيرة من النقّاد السينمائيين، العرب والأجانب، أبرزها عن سرّ غياب المهرجانات السينمائية في الجزائر، رغم توفّره على هياكل ضرورية وإمكانات مالية تفقدها دول كثيرة. معطيات من شأنها تحريك المياه الراكدة، وإعادة القطار إلى سكّته الصحيحة، وإثارة نقاشات جادّة حول مستقبل هذه الصناعة وأهميتها.
ليس أدلّ على ذلك من تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في زيارته الأخيرة إلى الجزائر، الذي دعا فيه إلى خلق شراكات سينمائية جديدة بين الجزائر وفرنسا، لأنّه يعرف جيداً دور السينما في صنع الأفكار والترفيه والثقافة والفن في أذهان الشعوب. لكنْ، في المقابل، هل يعرف المسؤول الجزائري أهمية السينما في صنع الذوق والفكر وتنشيط الخيال؟ هل يبقى هذا الفنّ رهين القوانين غير المُنفّذة، وضحية وعودٍ لا تُنفّذ، ومجالاً خصباً للفاسدين الذي ملأوا جيوبهم بفضلها، من دون أنْ يُقدّموا ما يُعلي من شأنها؟