"أرض الانتقام": اختبارٌ بصري عن ألم واختناق

04 نوفمبر 2024
سمير الحكيم في "أرض الانتقام": أي طريق يقود نفسَه فيها؟ (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه جمال تحديات شخصية بعد خروجه من السجن، حيث يكتشف غياب عائلته وبيع منزله، ويجد الدعم من شقيقته، فيقرر الانتقال إلى بلدته الريفية لبداية جديدة.
- فيلم "أرض الانتقام" يعرض رحلة جمال في البحث عن الخلاص وسط تحديات قاسية، ويتميز بتصوير بصري يعكس القلق الداخلي، مع أداء مميز لسمير الحكيم.
- في البلدة الريفية، يواجه جمال فساداً إدارياً يعطل مشروعه الزراعي، ويطرح الفيلم تساؤلات حول إمكانية تحقيق الخلاص في عالم مليء بالفساد.

منذ خروجه من السجن، بعد ثلاثة أعوام يُمضيها فيه بتهمة تُعرف لاحقاً (التستّر على شخصية فاسدة)، يبحث جمال (سمير الحكيم) عن لحظة صفاءٍ تُنقذه من غضبٍ وتوتّر وقهرٍ، خاصةً بعد اكتشافه أنّ زوجته مريم (مريم مجقان) غير موجودةٍ (وابنهما) في المنزل العائلي، الذي تتركه بُعيد سجنه، والمُباع حينها. تدريجياً، ينفتح الجحيم عليه، ببطءٍ يُرافق إيقاعاً هادئاً في سرد حكاية ومعاينة حالة. وحدها شقيقته (زهرة فايضي) تستقبله بترحابٍ يليق بالإخوّة الفعلية، محاوِلةً التخفيف عنه قدر الإمكان. أيامٌ تمرّ وهو مُقيم عندها، مُكتشفاً بعض المخفيّ في يوميات عائلة لا أب لها، كأنّه يتعرّف إليها راهناً. في يومٍ، يُقرّر المغادرة إلى منزل له/للعائلة، مُغلَقٌ منذ سنين، في بلدته الريفية.

بكثيرٍ من تبسيطٍ بصريّ، غير لاغٍ جمال صورة (مدير التصوير: حمودي لعقون) في التقاط نَفْسٍ وانفعالٍ في ذات جمال، يُقدِّم الجزائري أنيس جعاد "أرض الانتقام" (2024)، مُوحياً، في الدقائق الأولى على الأقلّ، بأنّ المخفيّ في حياته سيندثر، وأنّ السابق على خروجه من السجن منتهٍ، وأنّ الانتقال إلى الريف بداية حقبة أفضل وأهدأ. إيحاءٌ يُتقن سمير الحكيم، الفائز (بفضل جمال) بجائزة أفضل ممثل في الدورة الـ12 (4 ـ 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي"، بثّه على شاشةٍ، سترافقه في رحلة خلاصٍ منشود، رغم مطبّات قاهِرة، وتحدّيات تكشف خراباً في أفرادٍ وبيئةٍ.

لقطات أولى (جمال واقفاً أمام حائط، يدخّن بشراهة، وينظر إلى لا شيء، وشابٌ سيكون سائق باصٍ ينتظر ركّابُه موعدَ انطلاقه، والأفق أقرب إلى الرماديّ، وشبه الصمت لغة أعمق وأصدق) تصنع مدخلاً (يُفترض به أنْ يكون هادئاً) إلى فيلمٍ ينسج حبكته ببساطةٍ، غير حاجبةٍ وجعاً وانكساراً، لعلّهما غير محرّضِيَن على انتقامٍ، لكنّ الحاصل بعد أنْ يستقلّ جمال الباص، الذي يُقلّه إلى حيث يُفترض بعائلته أنْ تُقيم، يكشِف أنّ للانتقام ملامح تنكشف رويداً، من دون معرفة ما سيؤول إليه ذاك المسار الذي لا حدّ له ولا قيد.

تساهم كاميرا لعقون في تمتين أرضية بصرية لسرد حكاية ومعاينة حالة، باشتغال على لقطات بعيدة وطويلة نسبياً، من دون أنْ تتجاوز ثواني عدّة، لكنّ الإحساس بطول مدّتها منبثقٌ من حُسن جعلها عاملاً ضاغطاً يُثير شعوراً بقلق وألمٍ؛ وعلى كادرات ثابتة، يُشبه بعضها لوحات تشكيلية بألوان يطغى عليها الرماديّ، خاصةً تلك المتعلّقة بالطبيعة، وبامتدادها المُعاكِس لضيق حياة وعلاقات، أو لما فيها من خشونةٍ وقسوة غير مرئيتين لحظة التقاطها، كانعكاس لضيق أفقٍ كذلك. رغم هذا، هناك لحظات تكون الإطالة فيها غير مُفيدة درامياً، إذْ تُصبح تكراراً لا غير، خاصة في حواراتٍ بين شخصين أو أكثر.

في بلدته الريفية، التي يُظنّ أنّها ستمنحه سكينةً وسلاماً، يُبرهن الجحيم أنّ له تمدّداً جغرافياً، مستفيداً من ثنائية متناقضة في أصل الطبيعة (والطبيعة البشرية أيضاً): جمال وهناء ورغد عيش، وعنفٌ وغضبٌ وتحطيم. في "أرض الانتقام" (للعنوان إشارةٌ إلى ما في الطبيعة/الأرض من قدرة على التحريض على الانتقام/الثأر، إنْ يتمكّن المرء من تحقيق ذلك، فليس مؤكّداً أنّه سيبلغ بعده لحظة أمانٍ منشود)، أي في تلك البلدة الريفية بمؤسساتها وعلاقات ناسها والمخبّأ أحياناً بين جدران منازل أو في أعماق أفراد، يكتشف جمال أنّ الخراب منفلشٌ في أمكنةٍ كثيرة (مادية وروحية)، وأنّ رغبته في اغتسال وتطهّر ستتعطّل، لما في نفوسٍ عدّة من انهيار وعفن.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

محمد (محمد موفق)، أحد أقاربه، سيكون أول مُستقبِل له في البلدة. علاقة تتجدّد، ومشروعٌ لجمال (استثمار أرضٍ للزراعة) يوافق محمد على مساعدته في تحقيقه. لكنّ معاملات إدارية تتأخّر أولاً، فالموظف قادة (محمد تاكيرات) محتالٌ، أو ربما متواطئ في عدم منح الموافقة الرسمية، قبل انكشافٍ لاحقٍ لحجم الاهتراء المحيط بجمال (لا مياه جوفية في الأرض، رغم تأكيدات عدّة على وجودها). تفاصيل كثيرة تواكب سرداً (سيناريو أنيس جعاد)، ينفتح على خفايا نفسٍ بشرية، لن تُفيد إطلالة العمّ العجوز (رشيد بن علال) فجأة في تخفيف حدّتها (الخفايا)، أو في تحليل مساراتها كفاية.

من فساد مديرٍ سابق له (شوقي عماري)، يؤدّي إلى مُصابٍ لن يُشفى جمال منه كلّياً، إلى "فسادٍ" من نوعٍ آخر يُمارسه مدير قادة (حميد كريم) من وراء ستارٍ غير مرئي، لكنّه كفيلٌ بإضافة مزيدٍ من تعبٍ في ذات العائد إلى بلدته وروحه. كلّ الحاصل في البلدة مع جمال نتاجُ انغماسٍ في مصالح ذاتية، أو علاقات آنيّة متأتية من ماضٍ، حضوره طاغٍ في راهنٍ غير سوي. أداء سمير الحكيم يُساعد على تبيان الهوّة السحيقة في روح جمال ونَفْسِه، وعلى فضحٍ تدريجي لمحيطين به.

لكنْ، هل يتمكّن جمال من تحقيق ما يبغيه، وما يبغيه متعدّد الأنماط، كأنْ يسعى بجدّية إلى خلاصٍ من بشاعة ماضٍ، فيصدمه راهنٌ غارق في بشاعة وخراب يختبئان في طبيعةٍ "هادئة"؟ أو كأنْ يرى في الانتقام سبيلاً إلى ارتياحٍ داخليّ، وإنْ يعجز عن ذلك، أو هكذا يظهر على الأقلّ، وهذا أفضل سينمائياً؟ أمْ أنّ المسألة برمّتها غير معنية بهذا كلّه، بل بكيفية القيام برحلةٍ فردية في عالمٍ خانقٍ، بمسار حادّ لها في منعرجاتٍ قاسية؟

المساهمون