في أول يوم ثلاثاء، عقب وصول المال من ابنها الغائب في السودان، مصطفى، ذهبت حزينة، في الرواية الفاتنة "الطوق والإسورة"، ليحيى الطيب عبد الله، إلى السوق في البندر واشترت أرنبين كبيرين؛ ذكراً أسود وأنثى بيضاء.
أما لماذا ابتاعتهما؟ فلأن ابنتها الحامل تحتاج لحماً لتأكله عندما تلد. وليست هذه وظيفة الأرانب الوحيدة، بل ثمة دور جمالي رمزي لها، ما يجعل من وظيفة الأرانب أساسية وتأسيسية في الرواية (1975) والفيلم الذي يحمل الاسم نفسه (1986)، فهي بطلٌ موازٍ في الرواية التي تقع في نحو خمسين صفحة (نوفيلا) للكاتب الذي رحل في حادث سير عن عمر قصير (43 عاماً)، والذي ترك إرثاً قليلاً، لكنّه بديع وكبير الأثر في القصة القصيرة المصرية، إلى الدرجة التي اعتبره فيها كاتب في حجم إدوار خراط شاعر القصة بامتياز.
تُعتبر "الطوق والإسورة" العمل الأكثر شهرة لكاتبها، بلغته الشعرية ورموزه الميثولوجية والأنثروبولوجية، ومنها الأرانب وعناصر الطبيعة الأربعة. ففهيمة ابنة حزينة (التراب) التي ابتاعت الأرنبين كما أسلفنا، تتزوج الحدّاد (النار)، فلا تحمل منه لأنّه عنين أصلاً؛ فيطلّقها ليقترن بابنة الصيّاد. ورغم أنه من الصعب هنا تفكيك الرموز وتحليلها في هذه العجالة، فإنه من المهم الإشارة إلى أن الفيلم المأخوذ عن الرواية حافظ على بنيتها الأصلية بما فيها الرموز. ويعود ذلك إلى عبقرية المخرج خيري بشارة، الذي قارب النص الأدبي برهافة سينمائية تحفل بأدق التفاصيل بلغة بصرية تتجاذبها الشعرية والواقعية الخشنة. والثاني أنّ الرواية نفسها كُتبت أصلاً بتقنية المقاطع القصيرة المتتابعة، الأقرب إلى تقطيع المونتاج بلغة السينما. ويحسب للمخرج التفاته إلى رموز الرواية، ومنها الأرانب التي ترمز إلى الخصب والتوالد، وإن لم تغادر في الرواية والفيلم دورها الوظيفي الأساسي، كونها تُربّى لتؤكل، فقد ابتاعتها حزينة، وأدت الدور فردوس عبد الحميد، لتُطعم ابنتها فهيمة (شريهان) عندما تلد. ولأنّ الخصب نتاج الشهوة؛ فإن الأرانب تحضر عند أول تواصل جسدي بين حفيدة حزينة (نبوية في الرواية وحورية في الفيلم) وابن الشيخ الفاضل، إذ تركض نبوية وراء أحد الأرانب، وعندما تقبض عليه تكتشف أنه مات فتحزن، فيقودها الحزن إلى أحضان الولد والأرنب بينهما، والولد في الرواية يحب الأرانب في كل أحوالها، الصغيرة والكبيرة، والسوداء والبيضاء.
وعندما يدفن الخال نبوية تحت التراب، مبقياً رأسها فوق الأرض، تتساءل نبوية لماذا لا يقترب منها الأرنب الذكر الكبير ويمرر شعره الناعم فوق وجهها؟ كما تحضر الأرانب في نهاية الرواية، فعندما يخلو بيت حزينة بذبح حفيدتها وشلل ابنها، تنسل الأرانب بقيادة الذكر الكبير إلى كرم النخيل المجاور.
الرواية والفيلم بالتالي يقاربان مفهوم الشهوة البدائية؛ إذ يصطدم بالثقافة الذكورية والخرافة، لذلك نعثر على الأرانب تتقافز في مقاطع كثيرة من الفيلم، فهي ترمز إلى الرغبة والجنس والتكاثر من جهة، وإلى الأنوثة أو المرأة التي ستُذبح كما الأرانب لا إشباعاً للجوع، بل تطهيراً لما يسمى بالشرف، وإشباعاً للنرجسية الذكورية الجريحة.
في الفيلم ثمة ثلاث نساء: الجدة حزينة والابنة فهيمة والحفيدة حورية، ورجلان: الأب المريض والابن مصطفى، وضربة المعلم الإخراجية الكبرى تمثلت بإسناد دوري الابنة والحفيدة إلى ممثلة واحدة، شريهان، في أفضل ظهور سينمائي لها، بينما يؤدي دوري الأب والابن عزت العلايلي، وله أدوار أجمل مما أدى في هذا الفيلم. أما إبداع بشارة هنا؛ فلأن الأحداث تتكرر والزمن، وإن سار فإنه لا يحمل أي تغيير في تلك القرية (الكرنك)، في ظل ثقافة ذكورية تتسيّدها الخرافة والتقاليد البالية.
أُنتج الفيلم عام 1986، ويعتبر ذروة أعمال خيري بشارة السينمائية، فعلى تميّز أفلامه مثل "يوم مر يوم حلو" بواقعيته الخشنة إذا صح الوصف و"رغبة متوحشة" و"العوامة 70"، إلا أن اللغة السينمائية في "الطوق والإسورة" تظل الأرفع والأكثر جمالاً بين أفلامه كلها، ويعود جزء كبير من الفضل في ذلك إلى النص البديع ليحيى الطاهر عبد الله، الذي رثاه أمل دنقل بقصيدة مؤثرة حين رحل.