استمع إلى الملخص
- تعرض لاعتداء في 1989 أثر على مسيرته، لكن إرثه الموسيقي استمر في التأثير، وأغانيه أصبحت جزءاً من الثقافة الشعبية، وأعيد إحياء أعماله بعد ثورة 2011.
- رغم الانتقادات، يُعتبر رمزاً للأغنية الشعبية الحديثة، حيث حول كلمات بسيطة إلى أعمال ناجحة، وترك بصمة لا تُنسى في عالم الموسيقى.
لم تُحك الأساطير حول فنان عربي، كما حيكت حول أحمد عدوية الذي رحل مساء الأحد عن 79 عاماً. ولم يُحارَب فنان عربي، كما حورب أحمد عدوية. مع ذلك، ها هو يرحل عن هذا العالم متوّجاً عراباً للأغنية الشعبية المصرية، وتاركاً إرثاً موسيقياً هو الأنجح بين مجايليه من المطربين.
للنهاية تاريخان
في استعادة لسيرته، تبدو الكتابة الموضوعية عنه مستحيلة، فلا منطقة رمادية في حب عدوية، أنت إما من جمهوره وإما من مبغضيه. وهي الثنائية التي ستلازم مسيرته منذ بدايتها الرسمية عام 1972 حتى نهايتها. وللنهاية تاريخان، الأول الذي سيردّد ويحفظ بعد رحيله، هو 30 ديسمبر/كانون الأول 2024. أما الثاني وهو التاريخ الفعلي، فهو 28 يونيو/حزيران 1989، الليلة التي بنيت حولها الحكايات والأساطير، الليلة التي تعرّض فيها أحمد عدوية لاعتداء، في فندق الماريوت في القاهرة، كاد يودي بحياته.
قد تؤلَّف كتب عن تلك الليلة، وقد تخرج أفلام وثائقية، ولن ندخل هنا في تفاصيلها. لكن في تلك الليلة انتهت فعلياً مسيرة أحمد عدوية التي استمرت 17 عاماً، بنى خلالها مساراً لا يشبه مسيرة أحد من زملائه. كل ما جاء بعد ذلك كان مجرّد محاولات فنية، من دون أي إضافة تذكر.
نعود إلى عام 1972 إذن، تحديداً عيد زواج الفنانة شريفة فاضل واللواء علي زكي "في الدور الأخير من عمارة بلمونت في غاردن سيتي"، وفق رواية عدوية. وقف المغني المغمور وقتها، مغنياً في الحفل، ليتلقّفه مدير كازينو أريزونا، ويوقّع معه عقداً فنياً. هذه الحكاية التي رواها عدوية نفسه في أكثر من مقابلة، وإن كانت بعض الكتابات تعيد بداياته في ملهى أريزونا إلى عام 1971، بينها سلسلة الحلقات التي كتبها الكاتب المصري أحمد ناجي، عن عدوية وليلة الاعتداء عليه عام 1989. المهمّ أنه بين هذين العامين بدأت مسيرة أحمد عدوية، لتأخذ مسارها الجديّ بعدها بفترة قصيرة مع توقيع عقد مع شركة "صوت الحب" الناشئة.
مسيرة تقليدية حتى الآن، يتخللها غضب الأهل من عمل ابنها مع الراقصات وفي الملاهي. لكن لا شيء في مسيرة عدوية تقليدي. فما إن ظهرت أولى أغنياته الناجحة "السح الدح امبو"، حتى فتحت عليه نار لم تعرفها الساحة الغنائية المصرية من قبل. ألصقت كل التّهم بعدوية، الآتي بعد حقبة موسيقية مصرية "رصينة" أعمدتها أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، تلك الحقبة التي كانت حتى الأغنية الشعبية فيها تردّد كلاماً أنيقاً، لا يردّده الشارع المصري ولا حاراته الشعبية. لم تكن الأغنية لعدوية، بل أغنية لمحمد طه، وغناها كثيرون بينهم شكوكو، لكن مع عدوية، عرفت الأغنية نجاحاً هستيرياً في الحواري المصرية، ورغم وصمها بـ"الابتذال" ثمّ "الرداءة" ثمّ "السوقية" ثمّ "ترسيخ للفن الهابط"، تحوّل عدوية بسببها إلى نجم بين المصريين، باستثناء الطبقة المثقفة، تحديداً بقايا الناصرية، الذين رأوا في نجاح عدوية تدشيناً لعهد موسيقي جديد يتماشى مع الانفتاح الاقتصادي والثقافي وتراجع الدولة في الإنتاج الفني في عهد الرئيس محمد أنور السادات.
عدوية منذ "سلامتها أم حسن"
لكن قبل "السح الدح امبو"، وبعيداً عن الشارع بمفهومه الشعبي الكبير، كان المغني يراكم جمهوراً داخل ملهى أريزونا، من خلال أغانٍ ستعود لتشتهر لاحقاً مثل "كله على كله"، و"سلامتها أم حسن". وللأغنية الاخيرة تحديداً قصص لا تنتهي، كما هي حال كل ما قدّمه في مسيرته. فأم حسن هي تارة والدة عدوية، ثم والدة حسن أبو عتمان كاتب أنجح أغاني عدوية، ثمّ هي مصر نفسها التي تعاني تبعات الهزيمة و"من العين ومن الحسد"، لكن كل ما سبق سقط بالتقادم، لتبقى مشاهد عدوية ببذلته البيضاء وقميصه الأحمر وهو يرقص عليها رقصته الشهيرة في حفل النادي العربي في الكويت عام 1980.
ستتوالى نجاحات عدوية، مدفوعة تدريجياً باعتراف الموسيقيين والمثقفين المصريين بموهبته، وأولهم نجيب محفوظ، الذي سيقول في تصريح مفاجئ خلال مقابلة مع عمر بطيشة في الإذاعة المصرية إنه يميل "إلى الاستماع للموسيقى الجديدة، ممثلة بأحمد عدوية". هذه النجاحات ستفتح له أبواب التعاون مع أبرز موسيقيي تلك الحقبة، وأولهم هاني شنودة القادم من عالم التلحين المعتمد على الآلات الغربية، ليلحّن له "زحمة يا دنيا زحمة".
شهدت الثمانينيات على نجاح الشاب المصري الأسمر، مقصياً كل منافسيه من نجوم الأغنية المصرية، لتخلو له الساحة وحيداً، فقدّم عشرات الأغاني، بينها "سلطان يا أهل الهوى"، و"ستو"، و"ما بلاش اللون ده معانا"، و"كونت ديمونت كريستو"، و"راسي راسي"، و"يا ليل يا باشا"، "يا بنت السلطان"، مردداً كلاماً كان ليبدو غريباً لو أن أي فنان آخر غير عدوية قاله. فمن غير أحمد عدوية قادر على تحويل كلام مثل "لو كنت كنت إنت، أنا كونت ديمونت كريستو"، أو "إحنا اللي غرقنا السمكة لبّسنا الشمس النضارة؟" أو "ودمّك السُكري لاشويلك الجمبري"، و"كركشنجي دبح كبشه يا محلى مرقة لحم كبشه"؟ من غير عدوية قادر على مغازلة حبيبته بالقول "يا فروتا بأناناس"؟
كلام خارج سياق أحمد عدوية كان ليبدو مجرد شعر رديء محكي بلا أي معنى. هذا الكلام نفسه سيحمل الجيل اللاحق من الفنانين المصريين. سيمثّل عدوية مرجعاً وحيداً للأغنية الشعبية المصرية، رغم بعض النجاحات التي حققها فنانون آخرون في تلك الحقبة. وبعد ثورة 25 يناير 2011، والثورة الموسيقية التي رافقت إسقاط نظام حسن مبارك في مصر، سيعود أحمد عدوية إلى الساحة، بأصوات فنانين جدد، وفرق موسيقية عدة. ستستعيد فرقة "وسط البلد" مع عدوية أغنية "كركشندي"، وستغني "كايروكي"، أنجح الفرق الغنائية المصرية، "زحمة يا دنيا زحمة" في حفلاتها، وستغني فرقة "مسار إجباري" في برنامج "ميكروفون" مع عدوية "كونت ديمونت كريستو"، ومحمد رمضان سيغني معه "على وضعنا"، بينما سيبقى التعاون الأنجح بينه وبين الفنان اللبناني رامي عياش في أغنية "الناس الرايقة".
في استعادة سيرة عدوية، في هذه اللحظة تحديداً، أي لحظة الرحيل، عاطفة أكثر من مراجعة فنية حقيقية ونقدية. يستحق في رحيله تحية قد لا تعجب كثيرين من محبي الفن "الرصين"، هؤلاء الذين لا يزالون حتى اليوم يرفضون الاعتراف بمغني المهرجانات، ومغني الراب والتراب. لكن في لحظة كتابة التاريخ الموسيقي المصري في نصف القرن الأخير، سيُذكر اسم أحمد عدوية بوصفه واحداً من رواد الأغنية الشعبية الحديثة، فناناً شجاعاً، و"سلطان... سلطان يا أهل الهوى".