أحمد عدوية... صوت ممزوج بضجيج مقهى شعبي

30 ديسمبر 2024
عدوية في حفل في ساقية الصاوي (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أحمد عدوية، المغني الشعبي المصري، كان رمزاً بارزاً في عالم الأغنية الشعبية، حيث عبّر بصوته المميز عن وجدان الشارع المصري وترك بصمة لا تُنسى في تاريخ الموسيقى الشعبية منذ ظهوره في عام 1972.
- تميز عدوية بصوت يعكس البيئة الشعبية المصرية، واستفاد من التطور التقني مع ظهور شرائط الكاسيت للوصول إلى جمهور واسع، ونال إعجاب رموز الفن والأدب رغم الانتقادات.
- كان للموال دور محوري في مسيرته، حيث تعاون مع ملحنين كبار مثل بليغ حمدي وسيد مكاوي، ليصبح ملك الأغنية الشعبية وأستاذ الموال، تاركاً إرثاً فنياً لا يُنسى.

لم يكن مستغرباً أن يلقى نبأ رحيل المغني الشعبي المصري أحمد عدوية مساء الأحد عن 79 عاماً هذا التفاعل الضخم في الأوساط الفنية والصحافية ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، بل وحتى رسمياً، إذ نعاه وزير الثقافة المصري قائلاً: "فقدت الأغنية الشعبية أحد أبرز رموزها، فناناً عبّر بصوته المميز عن وجدان الشارع المصري، وصاحب مسيرة فنية حافلة بأغانٍ تركت بصمة لا تُنسى في تاريخ الموسيقى الشعبية".

كان عدوية أحد أكبر الظواهر الفنية في نصف قرن. ومنذ اللحظة الأولى لظهوره الكبير عام 1972، واجه حملة مضادة، قادها فنانون وكتاب بارزون، جعلوا منه رمزاً لكل أشكال القبح والتردي والعشوائية، وتجلياً أبرز لقيم الانفتاح الاقتصادي الذي قاده الرئيس المصري أنور السادات. لكن هذه الحملات لم تأت إلا بنتائج معاكسة، بعد أن أصبح صوت عدوية ينبعث من كل مكان في مصر، بعيداً عن مركزية الإذاعة، وصرامة التلفزيون، وأوهام لجان الاستماع.

"كركشندي دبح كبشه"

امتلك عدوية صوتاً جميلاً واسع المساحة، لكن مناطق الجمال في صوته لم تكن من النوع الفوقي الاستعلائي المتجاوز، كانت قماشة صوته قريبة مألوفة، يشعر المستمع أنها صنعت في مقهى شعبي، أو حارة قديمة في أحد أحياء القاهرة العتيقة. لكن موهبة الرجل احتاجت إلى سياق مواتٍ، سياسياً واجتماعياً، وهو ما توفر عقب هزيمة يونيو/حزيران 1967، التي جعلت المزاج المصري والعربي مرتاباً متشككاً تجاه ما اعتبر أنه ثوابت مستقرة، وأصبح مرحباً بالتجارب الجديدة، التي تتجاوز قيود الماضي. لكن السياق المواتي لم يكن فقط على المستويين السياسي والاجتماعي، بل كان أيضاً على المستوى التقني، متمثلاً في ظهور شرائط الكاسيت، وحرص الأسر المصرية على اقتناء أجهزة التسجيل.

عبر الكاسيت- ومن دون مبالغة- غزا صوت عدوية كل بقعة على أرض مصر، محدثاً صدمة كبيرة في الأوساط الفنية التقليدية، التي شرعت في انتقاده والسخرية منه ونسبته إلى الانحطاط والابتذال، ثم أخذت تعدّل موقفها تدريجياً بعد أن كاد موج عدوية أن يغرقها. انقلب الهجاء إلى مديح، والسخرية إلى إشادة، والإعراض إلى سعي للتعاون الفني.

لكن كثيراً من خصوم الرئيس محمد أنور السادات (1918 ــ 1981)، لا سيما من أصحاب التوجهات اليسارية والناصرية، استمروا في انتقادهم الشديد لعدوية، ولجماهيره؛ إذ رأوا فيه مثالاً حياً لتبدل "القيم" وتراجع الذوق وهيمنة شركات الكاسيت على الإنتاج الفني. ووجد هؤلاء في كلمات أغاني عدوية مبرراً منطقياً لمهاجمته واتهامه بإفساد الذوق، أو اتهام محبيه بأنهم من الجهلاء الذين لا يقيمون للكلمة وزناً، ولا يعطون للمعاني قيمة. وإلا، فهل يمكن لإنسان سويّ أن يطرب لكلمات تقول: "اسح ادح امبو... ادي الواد لابوه؟". أو هل يمكن لمن أوتي قدراً يسيراً من الثقافة والتعليم أن يُعجب بمطرب يقول: "كركشندي دبح كبشه... يا محلا مرقة لحم كبشو؟". رأى اليسار في أغاني عدوية أنها تمثل حداً فاصلاً بين عصر الثقافة والأدب والفن الرفيع وبين عصر التراجع والتدهور والعشوائية وانقلاب القيم، أو بتعبير الشاعر الدقهلاوي فؤاد طوبار: "عدوية ورث العقاد... والحكمة من نجوى فؤاد".

في المقابل، نال عدوية إعجاب رموز فنية، في مقدمتهم محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. ونال إشادة رموز أدبية من أبرزهم على الإطلاق نجيب محفوظ، الذي عبّر عن حبه لأحمد عدوية واستمتاعه بصوته، واعتبره أحد واهبي السعادة، بل ورأى أنه يمكن تقديم تأويلات لكلماته، لتكتسب معاني أكثر جدية.

الموال في مسيرة عدوية

يرى الناقد الموسيقي فادي العبد الله أن صوت عدوية "يتميز- حتى عن الأقدمين- بأن طبيعته وأداءه وعُربه تقترب من أساليب الناي والكَوَلة، خلافاً للآخرين الذين تعلموا الغناء بمصاحبة العود، أو من ملحنين هم أصلاً عازفو عود، إذ جرى استتباع الأداء الصوتي لإمكانيات العود وأساليب العوادين في الزخرفة والعفق". يتوقف العبد الله أمام جانب مهم في رحلة صعود عدوية، وهو نجاحه في "أن يجمع حوله بعض أفضل العازفين، مثل حسن أبو السعود (أكورديون)، وعبده داغر (كمان)، وسامي البابلي (ترومبيت)، وسيد أبو شفة (ناي وكولة)، وأن ثقافة عدوية الموسيقية الآتية من الإنصات إلى العازفين وإلى المواويل أتاحت لهؤلاء الموسيقيين مساحة كافية لاستمتاع الجمهور بإلهامهم". وفي تقدير العبد الله، فإن عدوية استطاع أن يجمع بين موسيقيين لائقين بالموال، وهو الفن الباقي الأساسي، فالموال هو ما يبقى من عدوية، وهو ما يرجع إليه منه اليوم.

 

بدورها، تتفق الباحثة والناقدة فيروز كرواية مع العبد الله في أهمية الموال عند استعراض مسيرة عدوية، مشيرة إلى "استعانته بتراث الموال الريفي الذي حفظه عن أنور العسكري وعبده الإسكندراني، واستطاع بذلك أن ينتج ما وصفه بعض الباحثين بالموال الجديد، أو القالب الذي أعاد الحيوية إلى الموال الريفي بإضافة الإيقاع والقياس (المازورة) وتضفيره مع الأغنية ذات المذهب والكوبليهات. ومن هذه الصفوف الخلفية، وبهذه الوصفة، نجح عدوية في أن يصبح الظاهرة الفنية الأوسع انتشاراً منذ عام 1972".

نريد هذه الأغنية

لأن نجاح عدوية كان كاسحاً، ولأنه شكل ظاهرة فنية استثنائية في تاريخ الغناء الشعبي، تنازع عليه موسيقيون، كل يزعم أنه صاحب الفضل الأول في اكتشافه، وحتى أغنياته التي انتقدها بعض الكتاب والمثقفين، تنازع عليها المؤلفون، كل يدّعي أنه من وضع كلماتها.

ظل التنازع قائماً حول اكتشاف عدوية بين منتج الكاسيت عاطف منتصر، وبين عازف الكمان عبده داغر، إلى أن رحل الأول في عام 2018، ولحق به الثاني عام 2021، من دون أن يُحسم النزاع بينهما. كان منتصر مصرّاً على أنه من اكتشف عدوية، بعد أن سمعه في أحد محال شارع الهرم، وأنه اتفق معه على غناء عدة مواويل. وعند مغادرته المحل، وجد عدوية جالساً يطبل على المنضدة، وهو يغني: "اسح ادح امبو"، فقال له منتصر: "دعك من المواويل.. نريد هذه الأغنية". لكن عبده داغر، وفي كل لقاء إعلامي أو صحافي، كان يكرّر ويؤكد أنه اكتشف عدوية الذي كان يعمل "شيالاً" عند الفنانين، يحمل آلاتهم، وينقلها لهم، وكانت لديه رغبة كبيرة في الغناء، ألحّ بها كثيراً: "عايز أغني يا عم عبده"، فلما بدأ محمد رشدي التعامل مع بليغ حمدي، ولمع اسمه، تنكّر لداغر، فكان الانتقام بإخراج عدوية إلى الجماهير عبر "أسطوانة شعبية" مدوية، وغنت شوارع مصر وحواريها: "السح الدح امبو". يقول داغر إنه تلقف المطلع من بائع "عصافير مقلية" في شارع "كلوت بك"، وأعطاه لـ"الريس بيرة" مؤلف الأغاني الشعبية ليكمل الكلمات، مقابل 50 قرشاً، ثم دفع بالكلمات إلى الشيخ طه، عازف الأكورديون، ليلحنها.

رحل أحمد عدوية، المغني الشعبي الذي عرفته الحياة الفنية في وجود أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. رحل من استطاع أن يفرض نفسه على ساحة فنية مزدحمة وتنافسية.

بدأت مسيرته بالانتقاد الشديد، وتحميله مسؤولية الظواهر السلبية في المجتمع، ثم انتهت وفي قائمة ملحنيه: هاني شنوده، وكمال الطويل، وبليغ حمدي، وسيد مكاوي. يمكن للكتاب والمثقفين وأصحاب النقد المستعلي أن يكتبوا ما يشاؤون، لكن لا يمكن لأحد أن ينكر أن قطاعات واسعة من الجماهير المصرية والعربية اعتبرت عدوية ملكا للأغنية الشعبية، وأستاذا للموال المطرب اللذيذ.. مثّل الرجل جانباً مهماً من ذكريات الناس، ولعل هذا ما يفسر حالة التفاعل الواسع على مواقع التواصل الاجتماعي مع خبر رحيله... كأن مصر كلها تغني: "راحوا الحبايب".

المساهمون