قدّم الفنان أحمد شرجي دوراً متميّزاً في "صمت الراعي" لرعد مشتت، بعد نيله شهادة البكالوريوس في "أكاديمية الفنون الجميلة"، والدكتوراه في "جامعة ابن طفيل ـ القنيطرة" (المغرب).
عام 1996، غادر بغداد إلى هولندا بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي يمرّ بها البلد، ويعمل الآن أستاذاً لفنّ التمثيل في "كلية التربية الفنية"، بعد عودته إلى العراق.
"العربي الجديد" التقته في حوارٍ عن أبرز محطّات سيرته الفنية.
غادرت العراق إلى بلاد الغربة، نهاية ثمانينيات القرن الـ20، حال إكمال تعليمك في كلية الفنون. هل تُحدّثنا عن مشاركاتك الفنية قبل المغادرة؟
ربما لا تختلف تجربتي كثيراً عن تجارب الذين سبقوني، من خلال المسرح المدرسي، والدخول لاحقاً إلى "معهد الفنون الجميلة ـ قسم المسرح". لكنّ الأبرز في تجربتي كامن في عملي مع المبدع حيدر منعثر، من خلال فرقة "فاوست"، التي قدّمت أعمالاً مهمة، أخرجها منعثر، وشاركت في مهرجانات وطنية عدّة خاصّة بالشباب.
لعلّ حصولي على جائزة أفضل ممثل بداية مهمّة بالنسبة إلى تلمّس طريقي في التمثيل، والدور هذا في مسرحية "البداية" للراحل حميد لطيف مريوش. ثم التحقتُ بـ"كلية الفنون الجميلة"، وعندها حدثت النقلة المعرفية النوعية، باعتبار أنّي تأسّستُ بشكل ممتاز. في الكلية، كانت الأعمال المسرحية ـ التي قدّمتها مع أستاذي الراحل بدري حسون فريد، كـ"خطوة من أجل ألف خطوة" و"ردهة رقم ستة" ـ ورشات في فنّ التمثيل والإلقاء، لا مجرّد أعمال. هناك أيضاً بدري حسون فريد.
هل كانت لك في بلاد المهجر أي مساهمات فنية؟
أنا مدين لهولندا بالكثير، لأنّها إضافة مهمّة في حياتي، فنياً وإنسانياً. بالتأكيد، هذا له سلبيات وإيجابيات، لكنّي روّضت نفسي على التعلّم، والنظر إلى الجانب المضيء. لا أشغل نفسي بالسلبيات، لاقتناعي بأنّها لا تعنيني. تعلّمت الكثير من المجتمع والثقافة الهولنديين. تواصلي الفني في هولندا أضاف لي الكثير، في الشخصيّ. على مستوى الأداء، تعلّمت آلية ونظام عمل آخر، وبالتالي هذه خبرة جديدة أضفتها إلى مخزوني المعرفي والأدائي: الانفتاح على الآخر، والعيش معه، معرفياً وجمالياً وثقافياً.
في هولندا، قدّمت مع المخرج محمد الدراجي أولى تجاربه السينمائية، فيلم قصير بعنوان "البلدوزر"، إلى أفلامٍ مع مخرجين هولنديين، أمثال ريمون خيلنك في "بعثة الأمان"، ويوهان ميرلنك في "تعال معي نذهب بعيداً". تطوّرت ذائقتي المعرفية والبصرية. المهجر منحني فرصاً كبيرة على مستوى تطوير ومواصلة مشروعي، "الممثل الباحث"، ووفّر لي فرصة تكملة الدراسات العليا.
أكملتَ تعليمك العالي في المغرب، رغم إقامتك في هولندا؟
الصدفة وحدها قادتني إلى اكتشاف المغرب وأهميته، بالنسبة إلى الدراسات العليا والبحث العلمي. هولندا لا تعترف بشهادات خرّيجي تسعينيات القرن الـ20، بعد تردّي التعليم، وانتشار الفساد التعليمي. لهذا، أصبح البحث عن بديل لتكملة مشروعي التنظيري، الذي أطلقت عليه اسم "الممثل الباحث"، ضرورياً. المشروع طرحتُه للممثل، وشاركت في ورش تطبيقية عدّة حوله، في المغرب وتونس وهولندا والكويت وبغداد. شاءت الصدف أن يحضن المغرب المشروع في أول ورشة تطبيقية، في "مهرجان فاس الاحترافي". ثم أكملت الدراسات العليا هناك.
لا يُمكن وصف أهمية الدراسات في "جامعة ابن طفيل ـ القنيطرة"، حيث نقرأ بنهم طروحات أساتذتها وترجماتهم النقدية. وسط هذا الحراك المعرفي النوعي، سيكون هناك حافزٌ مهمّ لتطوير المشروع. وفق ذلك، عملنا، أستاذي سعيد الناجي وأنا.
أكاديمياً، درّست فنّ التمثيل بعد تخصّصك به. إلى أي حدّ ساهم ذلك في صقل أدائك؟
الدراسة حاضنة مهمّة لخلق التميّز في طريق المعرفة الأكاديمية، وتوجيه مسار الاختيار ودقّته. خلقت رقيباً داخلياً قبل الرقيب الفني، والشعور بمسؤولية ما تقدّمه إلى المجتمع، مسرحياً وتلفزيونياً وسينمائياً. ثم يأتي دور الطموح الشخصي، بوضع خارطة تهتدي بها إلى مراحل الحياة الفنية، وأهمية المشاريع التي تعمل عليها، والتخطيط بوضع أهداف: هل تريد فقط أنْ تكون فناناً يعمل في التلفزيون ويعرفه الناس؟ هذه ليست ميزة. هناك كثيرون نشاهدهم في التلفزيون، وهم بالفعل نجوم في الشارع العراقي، لكنّ لا علاقة لغالبيتهم بالإبداع، رغم أنّهم موجودون على الشاشة. لهذا، لم أفكّر في أنْ أكون نجماً في الشارع بأعمالٍ سطحية، وسط هذا الخراب الفني والثقافي، بل أنْ أقدّم أعمالاً وشخصيات مغايرة عن البقية. هاجسي تقديم شخصيات وأعمال تترك أثراً في المجتمع. يُسعدني جداً أنْ يناديني الناس بأسماء الشخصيات التي أقدّمها.
عملتَ في المسرح والتلفزيون والسينما، لكنّي أرى أنْ عينيك على السينما.
أردّد دائماً أنّي ابن المسرح. أشعر برهبة الصوفي كلّما وقفت على خشبته. لكنّي أتّفق معك بشأن السينما، لما تملكه من سحرٍ خاص. ذاكرتنا البصرية مليئة بالدهشة والاحترافية. لم أقدّم ما يُرضيني كممثل سينمائي إلى الآن، وهناك الكثير الذي أطمح إلى تقديمه. تحدّي الممثل الحقيقي عندما يقف أمام كاميرا السينما، وفي لحظتها التي لا يُمكن تكرارها. هذه ميزة مشتركة مع المسرح الذي أعشق. السينما اختزال لحيواتنا ومواقفنا، ولهذا أسمّيها "ذاكرتنا".
قدّمتَ أداءً متميزاً في فيلم "صمت الراعي"، رغم أنّك كنتَ ممثلاً مسانداً. هل أعجبك الدور، أم القصّة؟
ليس هناك بطل في "صمت الراعي"، فالحكاية هي البطل الحقيقي، والشخصيات الرئيسية داعمة لها. أقصد بالشخصيات الرئيسية أفراد عائلة زهرة. ما شدّني إلى الفيلم، السيناريو الذي كتبه رعد مشتت بمهارة عالية. لم يركن إلى المُكرّر والعادي والكليشيهات في حكايات كهذه، لإدانة الأنظمة الديكتاتورية، بل ذهب إلى جانب مهمّ جداً: آلية صناعة الديكتاتور، من خلال الصمت. صمتنا جميعاً أمام الطغيان والظلم، وبالتالي نحن نساهم في صنع الطغاة، بترسيخ ثقافة الصمت إزاء ما يحدث في مجتمعاتنا. تناول مشتت هذه الفكرة عبر صمت الراعي عن حقيقة اختفاء زهرة، وانعكس ذلك على دوري كخال زهرة، العقل والحكمة. عندما يُكتب السيناريو بطريقة رائعة، بصرياً ولفظياً، تكون الشخصيات كلّها مهمّة، وتكون مشدوداً إليها بلهفةٍ وشوق.
تعاني السينما العراقية مشاكل كثيرة تحول دون تأكيد حضورها. برأيك، ما هي أهم مشكلة؟
نحن لا نملك تقاليد صناعة سينما، بل تجارب شخصية هنا وهناك. هذه التجربة وصلت إلى الضفة الأخرى بجهود صنّاعها. السينما صناعة وتجارة وعملية إنتاجية. نملك دائرة لها، لكنّنا بلا صناعة سينما. نحن صنّاع أوهامٍ بامتياز، نعمل وفق نرجسية عالية، وهذا يُعطّل السينما، لأنّنا لا نعترف بأنّنا نحاول، وهذا ليس عيباً. المحاولة أفضل من السكون. نحتاج إلى طلعت حرب عراقي لينهض بمشروع سينمائي.
لك أكثر من كتاب تنظيري في المسرح. هل أنت ممثل أم مخرج أم مُنظّر مسرحي؟
أنا كل هؤلاء، وهذا ليس غروراً. أنا رجل مسرح، أولاً وأخيراً، وعندما لا أكون في بروفة مسرحية أو مشروع مسرحي، أنشغل بالبحث المعرفي والأكاديمي، بكلّ ما يتعلّق بالمسرح عامة، والممثل خاصة. سعادتي كبيرة بأنْ أصبحت طروحاتي على مستوى سيميولوجيا المسرح مرجعاً للباحثين العرب والعراقيين.
صدر لي مؤخّراً "متاهة العلامات في العرض المسرحي ـ دراسة ثقافية"، عن "المركز الدولي لدراسات الفرجة" في المغرب، وهذا كتابي الرابع في مشروع سيميولوجيا المسرح، الذي يتكوّن من "سيميولوجيا الممثل" و"سيميولوجيا المسرح" و"ثقافة العرض المسرحي". قبل ذلك، صدر لي "المسرح العربي من الاستعارة والتقليد"، طرحت فيه سؤالاً: هل نملك مسرحاً عربياً، أو مسرحاً باللغة العربية؟
لا وقت عندي لإضاعته في ثرثرة المقاهي. دائماً أبحث عمّا يستفزّ مخيّلتي وذائقتي.