أحمد الحسني (2/ 2): فساد سياسي دفعني إلى السينما وفضائها الحرّ

26 يوليو 2023
أحمد الحسني: "لديّ حرية كبيرة في العمل الثقافي" (العربي الجديد)
+ الخط -

 

(*) لماذا؟

في المرحلة الأولى، كان صعباً إقامة شراكة مع أحد، ما يعني أنّه يجب أنْ تكون لدينا ميزانية مالية نستطيع الانطلاق بفضلها، جمعناها من الفائض المالي الذي معنا من الدورة المؤجّلة بسبب كورونا. احتفظنا بالمال، وقرّرنا تخصيصه بالمختبرات الاحترافية. على أساس المطالبة بالدعم في الدورة المقبلة، ويكون النجاح عاملاً مُساعداً للحصول عليه.

هذا سرّ تفوّقنا. الاقتراب من المحترفين أكثر، برويّة. كنّا حذرين جداً مع انطلاق الدورة الأولى للمختبرات: إذا فشلت، سيُقضى على الفكرة، وإذا نجحت، ستستمرّ، وتجذب شركاء ورعاة وداعمين.

 

(*) من الأشياء التي تُحسَب للمختبرات، نزاهة أعضاء لجان التحكيم وتقديمهم نصائح مخلصة، لا كما يحدث أحياناً في إزاحة مشروع لصالح آخر. أقول هذا بناء على أقوالٍ لصنّاع الأفلام أنفسهم.

اختيار الخبراء صعبٌ للغاية. في زيارة مختبرات مشابهة في أوروبا، تابعت خبراء وقائمين عليها، في مناقشتهم المشاريع، وكيفية طرح الأسئلة والتعامل مع صنّاع الأفلام. جميع المختارين تقريباً تابعتهم في مختبرات ومحترفات أخرى، وكنتُ أعرف أنهم نزيهون ومستقلّون ويقولون آراءهم بصدق وإخلاص. لديهم قدرة التعامل مع مشاريع عدّة، عربية وأوروبية.

اختيار اللجنة التي ستناقش المشاريع وتقدّم اقتراحات أصعب شيء، لأن اللجنة ستعكس صورة وتُثير انطباعاً حقيقيين عن المختبر. إذا كانت موفّقة وقوية، سيحسّ بها أصحاب المشاريع، ويشعرون بالاطمئنان، وبأنّ مشاريعهم في أيدٍ أمينة، وبأنّ أعضاءها يقدّمون لهم نصائح مفيدة.

 

(*) كذلك ورشة الطلاب، "من الكتابة للشاشة"، مع 3 خبراء: طارق بن شعبان، كاتب سيناريو وباحث سينمائي تونسي، وألِكْس فيراريس، منتج فرنسي ومدير "مهرجان كورسيكا للفيلم القصير"، والفرنسي فرانسيسكو أرتيلي، مخرج "خارج الموسم (Hors Saison)" و"كي لا يتغيّر شيءٌ (Pour Que Rien Ne Change)"، اللذين عُرضا في الورشة.

هذا المحترف جديد تماماً. يُنظّم في مدن أوروبية باسم "من الكتابة إلى الصورة السينمائية". وجدتُ فرصةً لتحقيقه في تطوان. مخرج سينمائي يحضر ومعه المعالجات الفنية لأعماله، والسيناريو، والديكوباج. يأتي بكلّ أدوات العمل والأفلام، ليشارك تجربته مع طلاب من المغرب يدرسون السينما، فيشرح كيفية اشتغاله على أفلامه. يُخبرهم عن تجربته، من الكتابة إلى الفيلم.

كنتُ حريصاً على ضرورة إرسال هذه الأدوات إلى الطلاب قبل شهرٍ من موعد الدورة. هذا يُسهِّل عليهم الاشتغال مع المخرج 4 أيامٍ متتالية.

 

(*) لاحظتُ أيضاً أنّ فريق التكوين جعل الطلاب يكتبون معالجة لمشروع يُطرح في 3 دقائق، كان بعضها جيّداً جداً، ومستوحى من حياتهم.

طبعاً. هذا نوع من التدريب، فلكلّ واحدٍ منهم معاناة يمكنها إلهامه بأفكار. كما أنّها لم تكن مجرّد ورشة في الكتابة والإخراج، بل أيضاً في اختيار الممثلين والموسيقى، وفي الإنتاج والمونتاج والعناصر التقنية المتعلّقة بإنتاج فيلم سينمائي. هذه التجربة متميّزة، وللمتفوّقين فيها فرصة ومستقبل. كأنْ يتمّ إرسال اثنين للالتحاق بمختبراتٍ في باريس أو كورسيكا، فيلتقون شباباً آخرين في العمر نفسه، ويتبادلون التجارب والخبرات والأفكار، ويتشاركون كتابة سيناريو. لا بُدّ أنْ ينتهوا من كتابة سيناريو.

 

(*) كيف بدأت علاقتك بمهرجان تطوان؟ ألأنك من مواليد المدينة؟

لست من مواليد تطوان، بل شفشاون، المدينة الزرقاء، التي تغيّرت. ولم يكن لونها أزرق. كانت مدينة بيضاء، والأزرق في الجزء الأسفل من البنايات والمنازل، وفي مقدمة المدينة فقط. كان الأزرق أقوى، الأزرق "النيلة"، مهمته المحافظة على البرودة. انتقلتُ إلى تطوان عند بلوغي 11 عاماً. أحببتها، وصارت مدينتي لأنها جميلة. أعطتني كثيراً. أهمّ شيء أنّها مدينة ثقافية تاريخية، وسكّانها طيبون ومتسامحون، ولديهم كل ما هو أخلاقي. هذه المدينة احتضنتني، فأصبحتُ جزءاً منها.

 

(*) وعلاقتك بالمهرجان، متى بدأت؟ كنت مناضلاً سياسياً، واعتُقِلت. كيف حصل الانتقال من السياسة إلى السينما؟

عند بلوغي 16 عاماً، انضممتُ إلى حركة تلاميذ مُعارضة من داخل المؤسّسة التعليمية، واسمها "النقابة الوطنية للتلاميذ". كانت محظورة. كنا نشتغل على حقوق التلميذ. في البكالوريا، انتقلت من النقابة إلى تنظيم "إلى الأمام"، الماركسي اللينيني الماوتسيتونغي. كانت قناعة شبابية قوية. كانت موجة عالمية، انتشرت في العالم العربي. اعتُقلت عام 1975 في تطوان. آنذاك، كانت علاقتي بالسينما تمرّ عبر نادي السينما، الذي انخرطت فيه. كان للأساتذة، الفرنسيين والمغاربة، تأثير كبير علينا في الارتباط بالحياة السينمائية. كنا نشاهد، كلّ يوم أحد، أفلاماً معهم. كان هذا قبل الاعتقال. أمضيت 5 أعوام في السجن، وبعد خروجي منه، بحثت عن أصدقاء كانوا معي فيه، أوّلهم إدريس كيكة، المسؤول المالي للمهرجان حالياً، وحسن يعقوبي، صديقي وأستاذي. عدنا إلى نادي السينما وأسميناه "نادي الشاشة". عام 1986، تأسست "جمعية أصدقاء السينما"، بعد عامٍ على تأسيس المهرجان. انتقلتُ إلى السينما لأنّ العمل السياسي بات صعباً عليّ.

 

 

(*) هل تجربة السجن والاعتقال لعبت دوراً في هذه الصعوبة؟

ابتعدتُ عن النشاط السياسي لأني صُدمت بتجربة معيّنة في الفساد. فضّلت التوجّه إلى الثقافة، التي تتضمّن السياسي. بعد خروجي من السجن، وانفصالي عن التنظيم السرّي، حاولت الانخراط في حزب، لكنّي رأيت فساد بعض أعضائه. أكثر ما كان يُقلقني الرشوة، فالارتشاء يقتل كّل شيء. هكذا انتهيت من العمل السياسي. هذه نصيحة كبيرة من أحد مؤسّسي هذا التيار، قالها لي: "الأفضل لك أنْ تترك السياسة وتبتعد عن هذا التوجّه، وتنخرط في العمل الثقافي. سيكون لك مستقبل فيه".

 

(*) هل أفادتك النصيحة؟

أجل. من الثمانينيات إلى الآن، لديّ حرية كبيرة في العمل الثقافي، واختيار الأفلام والمواضيع. حرية مطلقة. طبعاً في إطار توازن ما، واحترام متبادل. توازن بين القاعدة الثقافية للمثقفين والسلطات. هذا التوازن ساعد في نجاح المهرجان، وجعله يستمر. السلطة تحترم اختياراتك، لأنّها اختيارات مسؤولة وواعية وهادفة. عندما أحضرت "المهاجر"، تعرّضت للانتقاد. لكنْ، بعد مشاهدة الجمهور له وإدارة النقاش، أُعجبت به السلطات، وزال القلق. كما عرضتُ "البداية" (1986 ـ المحرّر) لصلاح أبو سيف عن الديمقراطية، والنقاش بعده تناول الديمقراطية المفقودة في الوطن العربي.

انتبهتُ إلى فكرة التوازن بفضل الناقد السينمائي والمثقف نور الدين الصايل، الذي أسّس معنا مهرجان تطوان، في دوراته الثلاث الأولى، وألقى المحاضرة التأسيسية في الدورة الأولى، في مارس/آذار 1985. مما قاله: "يُمكن لهذا المهرجان أنْ يكون له مستقبل، إذا استطاع أنْ يحافظ على توازن بين منظّميه والسلطات بشكل ديمقراطي وتفاعلي. أما إذا وقع خلل، فسيموت المهرجان. لذا، الأفضل تحقيق التوازن والتفاهم والتعايش، في إطار احترام متبادل".

 

(*) لماذا ابتعد نور الدين الصايل لاحقا عن تطوان؟

في إطار الاختيارات المتبادلة، وقع بيننا خلاف كبير. إنّه أستاذنا الكبير، لكنْ يصعب عليّ التكلم عنه الآن، بينما لا يستطيع هو الردّ عليّ. أقول فقط: "وقع بيننا ما وقع".

 

(*) عموما، لنور الدين الصايل أياد بيضاء على السينما المصرية والعربية.

صحيح. لكنّه قدّم خدمات كثيرة للسينما التونسية والمخرجين التونسيين أكثر مما خدم السينما المغربية، وأكثر من المصريين. (يضحك مازحاً) الأفضل أنْ أصمت (يواصل الضحك).

 

(*) تقصد بتقديم الدعم لهم؟

من خلال الدعم المُقدّم لهم، وبالتواصل معهم. فتح أمامهم أبواباً عدّة. عندما كان مدير "القناة الثانية" المغربية، أنتج للتونسيين والمصريين أفلاماً كثيرة، منها "باب الشمس" ليسري نصرالله (2004، جزآن: الرحيل والعودة ـ المحرّر). كانت علاقته جيّدة بيوسف شاهين، وبسمير فريد أيضاً.

 

(*) أشعر أنّكما خلقتما ثقة بينكما وبين المسؤولين، بدليل أنّهم بصدد إنشاء 150 دار عرض جديدة. هذا مؤشّر أنّهم أدركوا الحاجة إلى عدد كبير من دور العرض السينمائي، بدلاً من الهدم الذي يتمّ في دول عربية عدّة.

وزير الشباب والثقافة الحالي، محمد مهدي بنسعيد، لديه مشاريع متميزة في السينما، منها مشروع الـ150 قاعة سينمائية في المغرب كلّه. هذا جميل جداً، لأنّه سيتيح فضاء أوسع وأقوى للعرض السينمائي. هناك 3 قاعات في تطوان ستكون جاهزة مع نهاية هذا العام. كما وضع خطة لتحسين المهرجانات وتطويرها، كي لا تكون المهرجانات كثيرة العدد. إنها خطة صعبة لكنها ذكية، لوضعها شروطاً لدعم المهرجانات. إنه وزير شاب، لديه طاقة كبيرة للعمل، وحماسة للثقافة والفنون. إنّه صديق للمهرجان.

 

(*) لاحظت من كلمات المسؤولين في افتتاح الدورة الـ28 أنّهم صادقون في تحدّثهم عن السينما، وفي رغبتهم في دعمها.

أمضينا 12 عاماً والبلدية والمنتخبون بعيدون عن السينما، لأنّهم ينتمون إلى تيار متشدّد (حزب العدالة والتنمية)، وكانوا على خلافٍ كبير معنا. لم نحصل منهم على ملّيم واحد. قاطعوا المهرجان مقاطعة تامة ومطلقة. جهات أخرة عوّضت ذلك، كالدولة، ممثّلة بوزارة الداخلية والحكومة. الآن، تغيّر الوضع. يوجد حزب جديد من الشباب يدافعون عن المدينة، ويدركون أنّه أهم مهرجان فيها، ولا بُدّ من أنْ يحافظوا عليه. لذا، كلماتهم المكتوبة والشفهية أمينة وصادقة.

المساهمون