أبو غابي: الفن طريقة أفهم من خلالها العالم

01 أكتوبر 2023
شاهدت كل عرسٍ أقيم في بلاد الشام استطعت الوصول إليه (شربل كانون)
+ الخط -

لنور أحمد، المعروف بأبو غابي، مناخٌ موسيقيٌ خاص، مُستند إلى خلفية موسيقية متينة، شُيدت داخل أُسرة موسيقية، ورحلة خاضت في أنماط الغناء الصوفي، استمرت لسنوات بين دمشق وتركيا وحلب، على يد أمهر المنشدين آنذاك. وُلد أبو غابي في مُخيم اليرموك في سورية، لأسرة فلسطينية لجأت من حيفا زمن النكبة. في رصيده ألبومٌ بعنوان "حِجاز حرب"، ومجموعة من الأغاني المنفردة.

أصدر أخيراً أغنية أخرى مُنفردة بعنوان "ليْل مُتأخر"، وأطلق ألبومه الجديد تحت عنوان "سجى بلدي". للتعرف إلى أبو غابي، ورحلته الفنية وكيف تشكل مزاجه الموسيقي والفكر الذي يقف خلف كل ذلك، أجرت "العربي الجديد" معه هذا الحوار.


كيف تُعرف عن نفسك. حدثنا عن البيئة الفنية والسياسية التي أتيت منها؟

ترعرعت في منزلٍ موسيقي في مخيم اليرموك في ريف دمشق. أبي عازف عود ومغنٍّ. الموسيقى في منزلنا حاضرة كخبز يومي. لم يكن هنالك مهرب من أَن أصبح، على الأقل، مُقلِّداً. درست الصحافة وإعداد البرامج الإذاعية. عملت أيضاً في الإضاءة، ودائماً كان العمل في السينما يُشكّل هاجساً لي. قد تستغرب حين يخبرك شابٌ صغير نشأ في مخيم اليرموك في التسعينيات أن أول فيلم شاهده كان من إخراج الإيراني عباس كيارستامي. وحدث أن زار كيارستامي مخيم اليرموك عام 2001. كانت السينما حاضرة في ذاك المكان رغم الظروف الموضوعية الفقيرة.

أحد أصدقائي كانْ يَملك Hard disk drive يحوي أفلاماً. وجود مساحة تخزين تحوي أفلاماً في ذاك الزمن فكرةٌ ثورية بحد ذاتها، بالإضافة إلى نوادي السينما الصغيرة التي كان تنشأ على يد شباب المخيم من محبي السينما في أماكن تكون غالباً تابعة للفصائل الفلسطينية. في لحظة يأس، ذهبتُ إلى أورفا مع مُنْشد من أذربيجان يدعى حميد أسد الله، كان يريد تدريب كورال ديني في دمشق، لكنهم لاقوه باستخفاف، عندها بدأت رحلتي في عالم الغناء الصوفي، إن صح التعبير.

لم يكن لمنزلنا إلا خطاب سياسي واحد، لاجئون ومهمشون ومنتظرون يقاومون كل ذلك بالغناء والموسيقى، أما للمخيم ومجتمعه فالقصة مختلفة. سكان هذا المكان في حالة انتظار منذ 75 عاماً. المستقبل ضبابي، والحياة قلقة جداً داخله، العالم لا يريدنا نحن الفلسطينيين، علاقتنا بالمكان شَكْلت وجهة نظرنا في العالم.

ثمة شريحة مثقفة في المخيم من اليسار الفلسطيني، رغم خلافي مع غالبيتهم حول موقفهم من جرائم النظام السوري، إلا أنهم أثروا كثيراً في وجداني، الإسلاميون حاضرون أيضاً ولهم تأثيرهم. كان المخيم مليئاً بالتيارات، لظرفه السياسي الأثر والفضل على تشكيل مرجعيتي الفكرية والسياسية، وليس لبيئته الاجتماعية، فهي كحال باقي عشوائيات دمشق كانت تعاني من جملة ظروف حياتية قاهرة.

أُعرّف عن نفسي كفنان، ليس لأنني أغني أو أملك القدرة على صناعة فيلم أو تقديم عرضٍ كوميدي أو لكتابتي الشعر والأغاني، ليس لكل هذه التفاصيل، بل لأن الفن هو طريقة أفهم من خلالها العالم أكثر. أنا مؤمن بوجهة نظري بهذه الحياة، الزاوية التي أرى منها العالم تُبقي على إيماني بقدرتي على خلق فن ما. هذه الزاوية، كما ذكرت لك سابقاً، واسعة بالضرورة. هذا الظرف المعقد للفلسطينيين والسوريين، ساهم بتوسيع زاوية رؤيتنا. وهذا ليس ترفاً، حالياً صوتي هو أكثر ما يسعفني بالتعبير، صناعة الأغنية (عادةً) تكون أسرع من صناعة فيلم أو مسرحية، وأدواتها الإنتاجية أقل تكلفة.

المكان والزمان أثناء تعريفي عن نفسي وعن بيئتي لهما الأهمية القصوى، لكن شعوراً غريباً يراودني. أشعر بأنها قصة أحدهم وليست قصتي، ثمة مسافة شاسعة بيني وبين تلك الأحداث. ذاك الشاب الذي خرج من مخيم اليرموك إلى حلب ثم تركيا، بعدها حدثت الثورة السورية ووقعت الحرب، لتبدأ رحلة لجوئي إلى لبنان ثم فرنسا. هذه الأحداث جميعها والمسافة بيني وبينها تدفعني إلى الهروب من استحقاقي كفنان، ولا أعلم لماذا أهرب من هذا الاستحقاق.

ما تصنيف النمط الذي تقدمه؟ وما عناصره الأساسية؟ ولماذا نضطر للتصنيف؟

أُصنفهُ طرباً مُعاصراً. لستُ ملتزماً بالمدرسة الكلاسيكية للطرب ولا أدعي غناءه. في صوتي كل المواصفات النوعية للصوت الطربي الكلاسيكي. على مستوى الإنتاج، أحاول إخراج الطرب الكلاسيكي من عباءته التاريخية، ودفعه للمعاصرة ومساحات تجريب جديدة. الطرب العربي لم يتطور عملياً، كل ما نسمعه اليوم من أنماط غنائية وعُرب وتحويلات مقامية أصبح مألوفاً ومكرّراً، ومصدره واحد في معظم مدارس الغناء العربي. بقي الغناء الطربي في مصر وبلاد الشام على حاله منذ زمن الشيخ علي محمود وصولاً إلى يومنا هذا. كُلّه يدور حول نفسه حتى في الخليج والمغرب العربي. ثمة استثناءات قليلة لها تجاربها الخاصة، على سبيل المثال ظافر يوسف وكاميليا جبران وفرقة وشم، لكنها لم تتحول إلى مدارس.

الغناء الموزون على إيقاع ثابت يحدُّني في بعض الأحيان ويرميني خارج مساحة التفاريد الحرة التي أفضلها. أما بالنسبة للكلام، نادراً ما أجد شاعراً يتقاطع مع وجهة نظري حول ما أريد غناءه. في الحقيقة لا يهمني الكلام إن كان شعرياً أم لا، توافقه مع اللحن والحالة المزاجية للأغنية هو العامل الحاسم.

بالنسبة للتصنيف، لا أملك جواباً واضحاً، أنا ضده في الكثير من المواضع، ولا أحاكم على أساس الذائقة. إننا إلى حدٍ ما في زمن انفلات عام عن المعايير كافة، شخصياً أفضل أن تكون الخطوط بّينة وكل شيء في مكانه، لكن في المقابل يجب أن يُعاد النظر بشكل جدي في جدوى المعيارية ومن يحددها.

أنت لاجئ أباً عن جد. 75 سنة متواصلة من اللجوء، وما زالت مستمرة، من حيفا إلى دمشق ثم بيروت عام 2013، وأخيراً فرنسا، كيف انعكس هذا اللجوء على موسيقاك؟

معادلتي بسيطة جداً في الفن والحياة. أنا فلسطيني وسوري بذات المقدار كمّاً وتعاسةً وعبثيةً. كل ما حدث لي أثّر بي، وكل ما حدث لآبائي وأجدادي أثّر بي، وحتى كل ما حدث للإنسان العاقل منذ مليون سنة أثّر بي كوني أنتمي لهذا النوع. لا يوجد أحد بمعزل عن التأثير. تبقى كيفية تقديم الإنسان لمشروعه من خلال كل هذه المؤثرات هي الرهان الحقيقي.

بالنسبة لي، أحاول صنع خلطة خاصة أركز فيها على شكل فني أسمّيه "طرب معاصر"، فيه حضور لهويتي الفلسطينية، ولانتمائي السوري غير المنقوص، عبر رؤية تجعل السياسي في خدمة الفن، وليس العكس، أما مواقفي السياسية المباشرة، فأفضل ألا أرهق فيها الفن، لهذا أمارس حقي في التعبير كإنسان من خلال الكتابة والتفاعل مع الآخرين في كل ما يتوافق مع رؤيتي المبنية على منظور يستند إلى حقوق الإنسان والديمقراطية ومحاربة الإقصاء والعنصرية... إلخ.

كيف تكونت الذكرى الأولى لك عن فلسطين؟ وكيف قاربت القضية في أعمالك؟

لكل شيء في مخيم اليرموك اسمٌ فلسطيني. الشوارع والحارات والمستشفيات والمدارس، خُلقت فلسطين في وجداننا من الحكايات والأسماء قبل أن نراها على الخريطة. صحيحٌ أن المخيم خارج فلسطين، لكنه في عمقها. يأتي مع هذا كله القلق الذي تحدثت عنه، ذَكرت أن العالم لا يريدنا، حتى المترددين في الماضي، اليوم حسموا قرارهم ورفضونا، هذا القلق لم يأتِ من فراغ وليس سوء ظن، ذاكرتي مع فلسطين مرتبطة بوجودي الكلي.

كتب الشاعر الفلسطيني راشد الحسين أغنية "لون عينيكِ"، ولمحمود درويش غنيت "هذا البحر لي". صاحب رواية "زمن الخيول البيضاء" إبراهيم نصر الله كتب كلمات أغنية "نحن أحياء". صنعت فيلماً بعنوان "أنا أزرق" تحدثت فيه عن علاقتي مع المخيم. فلسطين حاضرة في أعمالي وستبقى، ليس بالشكل القديم المكثف المباشر، فنحن في زمنٍ مختلف.

بدأت رحلتك الفنية بالإنشاد الصْوفي، ولك تجربة طويلة بموسيقى التصوف، حدثنا عن هذه التجربة. وكيف يتفاعل الجمهور الغربي هذا النوع من الموسيقى والأداء؟

لم أكن منشداً في يوم من الأيام. وبشكل أدق، رحلتي كانت رحلة تعلم واستماع مع والدي ومشايخ المتصوفة، كانوا من البلقان والشام العراق وفلسطين ومصر وتركيا. تأسس أدائي وصوتي في هذه الرحلة، تأثرت بشكل عميق بمحمد عمران وحسن النادي وطه الفشني، وبمعلمي حميد أسد الله.

لتلك الرحلة أثرٌ على أدائي ووجداني لن يزول، ويلاحظه الجمهور بسهولة، شرقياً كان أو غربياً، بسبب طبيعة صوتي وأدائي في المواويل والتفاريد. في الحقيقة، لا أرى أن مصطلح الموسيقى الصوفية مصطلح دقيق. عندما نقول موسيقى صوفية، يعني أننا أمام موسيقى لها سلالمها الموسيقية ومفرداتها الخاصة، يمكننا بدل ذلك تسميتها موسيقى شرقية روحية.


صدر لك قبل أعوام ألبوم "حجاز حرب". ما قصة العنوان؟ وكيف ترى هذه التجربة اليوم بعد مرور أكثر من ثماني سنوات على إصداره؟

الألبوم ابن مرحلته الزمنية، ينتمي إلى مزاجها وصورها. كنت حينها أستعد لمغادرة سورية إلى لبنان من دون عودة. بعض الأغنيات لم أغنها سوى مرة واحدة. أصدرته بسبب الالتزام الأخلاقي اتجاه أغنياته والظروف التي كُتِبت فيها. منذ مدة قصيرة شاركت في عرس لشاب وفتاة وقعا بعضهما في حب بعض بسبب أغنيتي "لون عينيك" و"حبيني ولا تتخوتي". لم يكن "حجاز حرب" ما أريد إنجازه، لكنني أحب القصص التي تقف خلف أغنياته.

أخيراً، أطلقت أغنيتك الجديدة "ليل متأخر". هل من قصة تقف وراءها؟

كتبت "ليل متأخّر" بعد مسألة عاطفية معقدة، عبّرتُ عنها بهذه الطريقة. الأغنية ليست حالة شعرية بقدر ما هي غنائية. عند الغناء، لا أهتم لمدى شعرية الكلمة. المعاني والقوافي ومعها الصور الشعرية لا تأخذ حيزاً كبيراً من العمل. "ليل متأخر" حرة من القوالب الموسيقية التقليدية، موزعة باحترافية عالية، كانت ستصدر مع ألبومي الجديد. لكنني أصدرتها لوحدها كي لا ترتبط قصتها بالألبوم، ولتأخذ حقها كعمل منفرد له تجربته الخاصة. أريد أن يكون ألبومي الجديد حراً من كل شيء.

أطلقت ألبومك الثاني تحت عنوان "سجى بلدي". حدثنا أكثر عن هذه التجربة. وما سر استخدامك لأسماء المقامات الموسيقية في عناوين أعمالك؟

السجى لغوياً هو الهدوء. تخيل نفسك في الريف الدمشقي، جالساً على سطح المنزل في ساعات ليلٍ صيفي مُتأخر، وصوت عرسٍ ما يأتي من بعيد، موسيقى العرس تعزف على مقام السيغا/السجى البلدي، وهو مقامٌ مستخدم بكثرة في الأغنية الشعبية في الريف الدمشقي. من هذه اللحظة العالقة في ذاكرتي بدأ المشروع، ذاك الهدوء دمرته الحرب ودمرت معه المكان وجزءاً كبيراً من الذاكرة التي أريد إحياءها.

أُقدم الألبوم كتحية للغناء الشعبي في الريف الدمشقي، وتحية للغناء النسائي الجماعي في العالم العربي، استمر بحثي شبه التنقيبي في هذا التراث لمدة أربع سنوات. بدأتُ بعدها رحلة البحث عن تمويل، دعمني صندوق "اتجاهات ثقافة مستقلة" والصندوق العربي للفنون (آفاق)، وتطور المشروع بإقامتين فنيتين، إحداهما في استديو إدوارد سعيد في مدينة الفنون في باريس، التوزيع والإنتاج الموسيقي كان لعازف العود والصديق مهند نصر. وكنا قد عملنا معاً على "حجاز حرب " في السابق.

شاهدت كل عرسٍ أقيم في بلاد الشام استطعت الوصول إليه، مسجلاً كان على أشرطة فيديو منزلية قديمة، أو متاحاً على الإنترنت. تكونت لدي فكرة عامة عن كيفية تحضير العرس الشعبي، بما فيه من أغانٍ وتراث وفولكلور. أول ما تجلى أمامي هو الدور النسائي في إحياء العرس وطقوسه، بداية من طبخ وحنا والزفات والتعليلة في بعض المناطق، إن استمر العرس أسبوعاً النساء يغنين لأسبوع، وهذا ما أدهشني. من هنا أتت أول خمس أغنيات في الألبوم. اخترتها عندما غرقت في بحر الغناء النسائي الجماعي. بحرٌ من الصعب ألا تغرق فيه، إنه أقصى درجات الجمال.

من الكويت، هناك المغنية عودة المهنا والمغنيات في فرقتها، من البحرين أضفت أغنية "سمسمة" للمغنية هبة العبدالله. المغنيات العراقيات أيضاً كن يغنين المقام العراقي بحرفية عالية. النساء هن منبع التراث والفرق النسائية ممسكة بأهم مفاصل الغناء الشعبي الجماعي في الخليج والعراق. في بلاد الشام التجربة متواضعة، موجودة لكنها ليست بمستوى الخليج العربي أو العراق.

شاركني الغناء في الألبوم كورال "غاردينيا" من دمشق، وكورال "حنين" في أوروبا، وأيضاً شاركتني الفنانة بسمة جبر وهذا فخر لي. المساهمة الكبرى في الكلمات كانت من أمهات أصدقائي، لهن الفضل الكبير في ترميم الأغاني وفهم بعض المعاني فيها، وكتابة العديد من الأبيات.

الموّالان (يا زين وياهل العارفة)، هما التحية للغناء الشعبي في الريف الدمشقي، وتحديداً للمغني الشعبي تيسير السقا (لقبه أبو رياح)، كان من أبرز وأهم المغنين الشعبيين في القرن العشرين في بلاد الشام، لم يتبق من شعبيته الهائلة سوى فيديوهات من الأعراس والحفلات التي أحياها وذكراه الحاضرة معنا، دُمّر المكان الذي ينتمي له وتوفي بفيروس كورونا عام 2022.

في ما يخص المقامات، قضيت سنوات طويلة مع شيوخ المتصوفة، لديهم هوس بالمقامات والتحويلات بينها، والحرفية العالية في أدائها. تسرب هذا الهوس إلى أعمالي، لكلِ مقامٍ هواه ولأسمائها دائماً معانٍ ثنائية، الألبوم الذي يلي "سجى بلدي" عنوانه "نوى الأثر" وهو أيضاً مقام موسيقي. أتمنى أن يحقق الألبوم نجاحاً واسعاً وأن يعجب الناس ويلامسهم ويقدم موسيقاهم بصدق مشاعرها وأن يحافظ عليها من الضياع.

لنعطِ موسيقى ما هوية يجب أن تتوافر عناصر معينة تدل على هذه الهوية. ما عناصر الهوية الموسيقية السورية؟

بالنسبة للموسيقى، هذا الموضوع مطروح في كل مكان في العالم بأشكال مختلفة. سؤال الهوية، وتحديداً السورية، إشكاليٌ على عدة مستويات. قبل أن ندخل في المجال الموسيقي، ونحدد العناصر الأساسية والثانوية التي تُعرف قطعة موسيقية ما على أنها سورية، يجب علينا البحث في هوية المكان ككل وتاريخه، ثمة أقليات إثنية وعرقية وقومية. المكان أساساً مُركب، ونحن معه غارقون في أزمة هوياتية عميقة.

لا أقول إننا بحاجة إلى هوية جامعة حتى نستطيع أن نُعرّف من خلالها هويتنا الموسيقية والغنائية والثقافية بشكل عام، لكن أعتقد أن هوية المكان كانت ستتجاوز الكثير من أزماتها في زمانٍ مختلف، مع منظومة حاكمة مختلفة، حتى لو بالتركيبة المعقدة ذاتها، إلا أنه مع وجود هذه المنظومة الحاكمة تَعزّز الانفصام والشرخ بمسألة الهوية، لذا لا نستطيع الحديث عن هوية موسيقية سورية سوى بالخطوط العريضة، على الأقل في هذه المرحلة.

إن كان ولا بد، أعتقد أن أوركسترا أورنينا بقيادة شفيع بدر الدين تقدم تصوراً خاصاً عن هوية الموسيقى السورية المرجوة، من خلال رؤية خاصة بالتوزيع والتأليف الموسيقي لبدر الدين متأثراً بالموسيقي والباحث نوري إسكندر. هذا يخلق حالة شعورية عميقة بالهوية السورية عند الاستماع لأعمال الفرقة وللأعمال التي تقدمها الأوركسترا لموسيقيين سوريين ومؤلفين تتقاطع رؤيتهم الموسيقية مع ما تقدمه الأوركسترا مثل إلياس باشورة وشعلان الحموي وحسان سكاف. الباب مفتوح أمام الجميع، لكن يبقى المشروع بحاجة لدعم كبير للاستمرار.

تبقى وجهة نظري محدودة بحكم ظرفي الخاص، لدينا موسيقيون على أعلى مستوى، وقد يحدث أن يقوم شبابٌ سوريّ، في تركيا أو سورية أو أوروبا، بأن ينتجوا ويجربوا، وتكون لهم رؤيتهم الخاصة التي قد تقدم اقتراحاً للهوية الموسيقية السورية.

أتابع العديد من المشاريع الموسيقية المهمة. كثر يجربون في مشاريع فرق الموسيقى الإلكترونية والكلاسيك والشعبي. بعضهم الآخر يحاول تجديد وإعادة إنتاج التراث، هذا كله تراكم، في ظروف معينة سيُحدث تغييراً نوعياً يوماً ما، وتبقى المشكلة هي الهوة الكبيرة بيننا وبين المكان، ولردمها نحتاج إلى إنتاج أكثف على كافة المستويات. سيساهم هذا ربما في تشكيل هويتنا في المستقبل، من يعلم؟

هل بالإمكان توظيف الموسيقى لتعميق الروابط الجمعية في الحركات الراديكالية، وتحديداً الدينية منها؟

الموسيقى، بكل أشكالها، أداةٌ توظف في مجالات اجتماعية وسياسية شتى. ونستطيع الاستثمار إيجابياً بها وبالفن والثقافة، الحركات الراديكالية توظف الموسيقى لمصلحتها وحاضرة في حياة هذه الجماعات عبر التاريخ. أما النسبة للجماعات الدينية، فالموضوع محمل بتعقيدات تاريخية ولست مؤهلاً للحديث عنه.

كيف ساهمت المِنَح (كمؤسسة المورد الثقافي أو آفاق أو اتجاهات) في المشهد الموسيقي السوري من بعد ثورة 2011؟ هل لعبت نفس الدور الذي تَلعبهُ شركات الإنتاج الكبرى، من حيث تقديم ما يريده الجمهور، والمساهمة في الانتشار الإعلامي للفنان؟

شخصياً أتقدم بالشكر للقائمين على هذه المؤسسات، اتجاهات وآفاق والمورد، هذه الصناديق الثلاثة ساهمت بدعم كبير للفنانين السوريين، خاصة في الظروف الحالية التي يعيشها السوريون من التشظي وتشرذم، من دون وجود أي رعاية من مؤسسة سورية وطنية. هذه المؤسسات تلعب دوراً مهماً في دعم مشاريع الفنانين. أفلامٌ سينمائية سورية جالت العالم بدعم من هذه المؤسسات، ومشاريع ثقافية كثيرة تركت أثراً كبيراً. 

حدثنا عن الموسيقى العربية والغربية التي تثير اهتمامك وتستقي منها. هل هنالك تسجيل أو أداء حي معين أثر فيك عميقاً؟

أستمع إلى كلود شلهوب عندما أريد التواصل مع الكون. شلهوب أيقونة موسيقية، أكثر ما يؤثر بمزاجي عند الاستماع إليه هو أداؤه المتقن على الكمان وطريقة تفكيره في الموسيقى. للموسيقى القادمة من أميركا الجنوبية، كآستور بيازولا والتانغو، وقعٌ خاص. بالنسبة للشرق، لا أذكر أنني مررت بعازف من إيران أو آسيا الوسطى إلا وجلست أستمع له. عربياً وباستثناء شلهوب، أحب أم كلثوم كثيراً. الغناء هو أم كلثوم، هذه تفضيلاتي الجمالية.

لضرورات الإنتاج، أستمع لكل شيء. وللغناء أستمع للمنشدين القدماء جميعهم، إن حدث وقلدت أحدهم دون قرار واعٍ، أتحول إلى مقلد، وعندما أهرب منهم أصبح المغني الذي أريد.

دائماً ما تقدم في حفلاتك أغاني من تراث الجنوب السوري، وتحديداً محافظة السويداء. كيف حدث هذا التأثر؟ وكيف يمكننا تجديد وحفظ هذا التراث؟

أحد أحلامي الكبرى هو إحياء حفلة في مدينة السويداء. وإن حدث ذلك سيكون يوم سعدي. تربطني علاقة بيني وبين هذه المدينة. كان أبي يزورها دائماً بسبب حبه لفريد الأطرش، وأحيا العديد من الحفلات فيها. أمي من مدينة صفد، وميلي لمنطقة الجليل الأعلى الغنية ثقافياً موجودٌ في جيناتي. تلك المنطقة التي تضم شمال فلسطين والجنوب السوري أنتمي لها وجدانياً. بالنسبة لتجديد التراث، يقول الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله: "الحكاية التي لا نحكيها تصبح مِلكاً لأعدائنا".

والتراث بكل أنواعه هو جزء مهم وأساسي في حكايتنا في الشرق. حكايتنا بالعلاقة مع المكان كانت وما زالت مهددة بالزوال. لذلك، في كل مكان ترى فيه فرقة دبكة فلسطينية، تشعر وكأنهم يروون حكايتهم. سؤال تجديد وحفظ التراث ذو طيف واسع ويحتاج لمؤرخ موسيقي أو أكثر، لذلك سأتحدث في جزئية محددة. برأيي الشخصي، التراث أو تجديده لا يتم بخطة مسبقة، جميع الفنانين المعاصرين استعادوا التراث أو جددوه كلٌ حسب طريقته وأسلوبه. بالنسبة لي التراث، يتجدد معنا كلما تجددنا والعكس صحيح.

في كثير من الأحيان، أشعر يأن عازف مجوز شعبياً أقرب إليّ من موسيقي أكاديمي، نظراً لعلاقته الحيوية مع حاضره وماضيه وآلته، وهنا بالذات يصبح ما هو تراثي في عازف المجوز حديثاً على الدوام، لأن ما يقوم به هو أقرب لأسلوب حياة، تخيل أن عازفي المجوز لا يخرجون من منازلهم إلا وهم متأبطون مجاوزهم.

بالنسبة لي، ظن كثيرون أنني حين غنيت لأبو رياح، أنني أعود للتراث أو أستحضره فقط، بينما ما دفعني لغناء الموالين هو صميمية التعبير عن اللحظة الراهنة التي نعيشها. يقول أبو رياح في مواله: "مسجون بالغرب مالي مسعفاً ونواح – جارت علي الليالي بالبكاء والنواح – وش حال هلي يلي قاعدين علي بالنواح". اليوم، أغلب السوريين والفلسطينيين في أوروبا لا يستطيعون العودة لبلادهم، هذا المنفى كان قسرياً بأغلب أحواله، لذا موال أبو رياح يعبر عني وعن الآلاف بالرغم من قدمه.

إن كانت لديك الميزانية الكاملة والحرية الكاملة لصناعة عمل ما، فأية عمل ستصنع؟

أريد أن أصنع مُعدات صوتية كونية، أضعها فوق قمة جبال الهملايا وجبال الألب وغابات الأمازون وفوق القطب المتجمد الشمالي وأُسمع كوكب الأرض أغنية "رق الحبيب" لأم كلثوم، حتى تتحول هذه الأغنية لصوت من أصوات الكوكب الطبيعية، كصوت هبوب الريح وصوت البحر، إن حدث ووصل صوت المعدات الصوتية إلى كواكب أخرى وكان هناك حياة على كواكب أخرى فأفضل أن نكتشفها عبر صوت كوكب الشرق. لا يمكنني تخيل الكون يتكلم إلا بصوت أم كلثوم.

المساهمون