"أبواب السماء" المغربي: تخبّط اختيارات وضعف معالجة

01 سبتمبر 2023
نسرين الراضي: أداء موفَّق في "أبواب السماء" (ألبيرتو بيتزولي/فرانس برس)
+ الخط -

 

يُعرض في الصالات المغربية "أبواب السماء" لمراد الخودي. فيلمٌ بكاستينغ نسائي مائة بالمائة، يندرج في تقليد عريق في السينما المغربية، ينبري، بتفاوتٍ فنّي بين التجارب، إلى طرق شرط المرأة من الزاوية المجتمعية، عبر سردٍ يولي أدوار البطولة لشخصيات نسائية، منذ "عرائس من قصب" (1982) للجيلالي فرحاتي، و"باب السماء مفتوح" (1988) لفريدة بليزيد، و"نساء ونساء" (1999) لسعد الشرايبي، وصولاً إلى "نساء الجناح ج" (2019) لمحمد نظيف، الذي يلتقي مع "أبواب السماء" في أجواء الاعتقال النفسي، وماضي التجارب المأسوية التي عاشتها النّزيلات.

رغم سعيه إلى إنجاز دراما سجنيّة طموحة، والمجازفة التي ينطوي عليها اختيار الفضاء المغلق، لم يتمكّن الخودي، في تجربته الطويلة الثانية بعد "فورماتاج" (2013)، من تحقيق عملٍ مقنع. تتلخّص أسباب تواضع النتيجة في تخبّط الاختيارات الفنية (خصوصاً على مستوى الديكور)، وضعف المعالجة الدرامية، التي تنزع إلى المباشرة عوض الإشارة، وتعتمد على تضخّم العاطفة (Pathos) بدل التسامي الذكي، ما ينعكس بشكل فادح في استعمال متعسّف للموسيقى التصويرية، أفسد حتّى المشاهد القليلة التي حملت بوادر معالجة مرهفة، ومجهوداً تمثيلياً مُعتَبراً.

في حقبة زمنية غير مُحدّدة، تُعتقل نورا (نادية آيت) في سجن مخصّص للنساء المحكومات بالإعدام. تتعرّف إلى شخصياتٍ عدّة، أبرزها العجوز المكفوفة (راوية)، التي أضناها انتظار العفو؛ وعويشة (فاطمة الزهراء بنّاصر)، الخدومة والإنسانية في العمق رغم قسوتها في الظاهر؛ ورحمة (هدى الريحاني)، المتعلّمة الوحيدة في المجموعة، التي تقصدها الأخريات جميعهنّ لكتابة طلباتهنّ إلى الإدارة؛ ونعيمة (نسرين الراضي)، التي لا تفرّط في الاعتناء بجمالها وأنوثتها، وتختبئ في هواية الرسم من واقع مُرٍّ، إذْ تتناوب على اغتصابها حارسة ذات ميول جنسية مثلية، وسلفيٌّ وافقت على الزواج به (بنظام "الخلوة شرعية") لتحصل منه على "القفّة" (الأكل ولوازم العيش)، ظنّاً منها بقرب تنفيذ الحكم.

ينتج من اكتشاف حمل نورا تقاربٌ بين النزيلات الخمس، فيغدو رهان الحفاظ على الحَمل أو إسقاطه مُحفّزاً إلى التقدّم في الحكي. لكنّ السيناريو يُفرّغ سريعاً هذا الرهان من حمولته العميقة، التي تُحيل على شرط التمسّك بالحياة، رغم "سيف ديموقليس" المسلّط على رؤوسهنّ، والمتمثّل بحكمِ إعدامٍ لا يُنفّذ فيهنّ ليتخلّصن من لعنة انتظار الموت، ولا يُرفع عنهنّ فيطلبن الغفران عمّا ارتكبن من جرائم؛ خصوصاً أنّ الاختزالَ الزمني لفترة حَمل نورا، الفاصلة بين الشهر الثالث ولحظة الوضع، كان فجائياً وغير سلسٍ البتّة، عكس الانتقال من هذه الفترة الأخيرة إلى بلوغ الرضيعة سنتها الثانية، الذي كان مُوفّقاً. من نافل القول أنْ لا شيء يرهن المعادلة الجمالية لأفلام الاعتقال أكثر من القدرة على التقاط الإحساس بمرور الزمن.

 

 

يشكل "أبواب السماء" امتداداً لجمالية الباروكية (Baroque ـ التكلّف والمغالاة في الملأ)، التي طبعت، منذ "فورماتاج"، أسلوب مراد الخودي (تأثّراً ربما باشتغاله في مسلسلات تلفزيونية) بحَرْفيّةٍ تغيب بموجبها تقريباً أي إحالة على مستوى قراءة غير ذلك الأوّلي البادي في الصُّور، فتتحوّل هذه الأخيرة إلى سيل من اللقطات الاعتيادية، المتكلّفة في أحسن الأحوال، و"كيتش" عسير على الهضم، في أسوأها. أما الإفراط في استعمال موسيقى (خلطة إيقاعات سمفونية) مُجتاحة بطابعها غير المتفرّد والصاخب، فأغرق حتّى المشاهد القليلة التي كان يُمكن أنْ تعتمد على قوة تعبيرها الذاتي، وصدق الأحاسيس المنبعثة منها، كالحوار بين عويشة والطفلة ملاك عن دواعي اعتقالهنّ، وما يوجد وراء الأسوار.

هذا يُذكّر بتدبير "الحياة جميلة" (1997) لروبيرتو بينيني، أو فكرة قلب الآية في عين الطفل بين ما تمثّله الأشياء في المعتقل، أو المونولوغ الذي تؤديه بنّاصر في ثوب عويشة دائماً، حين تحاول رفع معنويات العجوز القابعة في سرير المرض، فتحدّثها بنبرة حالمة عن تفاصيل برنامج رحلة سيارة أجرة، يقودها إلى ربوع البادية التي تتحدّر منها، عندما تحصل على حريتها.

طَبَع تفاوتٌ أداءَ الممثلات اللواتي أدّين الأدوار الرئيسية. فبينما توفّقت، إلى حدّ ما، نسرين الراضي وراوية وفاطمة الزهراء بنّاصر في العثور على النبرة المناسبة لتمثّل شخصياتهنّ، تجاوز، نوعاً ما، تركيب شخصية رحمة (هدى الريحاني)، بينما بدت نادية آيت تائهة في دور البطولة، ما انعكس سلباً على تأثير الفيلم. لكنّ نقطة الضعف الأساسية في الاختيارات الفنية تظلّ هندسة الديكور، التي لم تتّسم بالدقّة والإتقان اللازمين، فجاءت فضاءات المعتقل خليطاً غير منسجم بين بناء إسمنتي جديد، وعلامات تدهورٍ مُصطنعة على الجدران. انضاف عدم الحسم هذا إلى إخفاق دراماتورجيا الفيلم في استثمار فضاء المعتقل كمحيط عيش، ليبدو منفصلاً عن الشخصيات، ومفتقراً إلى صبغة فضاء سينمائي حقيقي. ولعلّ هذا ما يوضح، مرّة أخرى، أهمية هندسة الديكور، التي قليلاً ما تُسنَد إلى ذوي الاختصاص والموهبة في المغرب، عكس إدارة التصوير.

نتيجة هذا كلّه ماثلةٌ في تخبّط الكاميرا في حركاتٍ لا تنتهي (الحركة الدائرية حول نورا في ساحة المعتقل لا تحمل أي معنى)، بغية استثمار فضاءٍ لا روح فيه، ومشاهد من دون رهان درامي حقيقي.

عدم حسم مراد الخودي في تصوّره الفنّي بين المنحى الواقعي، الذي كان يُمكن أنْ يمنح فيلمه خطاباً اجتماعياً مهمّاً عن الوضعية المزرية لسجون المغرب (إشكالية الاكتظاظ، انتهاك حقوق السجناء، إلخ) من جهة، وتوجّه القصة الفانتازية إلى ميثولوجيا حكم الإعدام، أو الثورة من داخل منظومة الاعتقال، على غرار "الخطّ الأخضر" (1999) لفرانك دارابونت و"القلعة الأخيرة" (2001) لرود لوري، من جهة ثانية؛ هذا كلّه لم يخدم طرح الفيلم. أبرز مثل على هذا المعطى اغتيال مسعودة (فيروز العامري) بدمٍ باردٍ من أحد الحرّاس، لأنّها حاولت مساعدة ملاك لتطلّ خارج سور السجن، في مشهدٍ متعسّفٍ على المرجعية الواقعية، لافتقاره إلى المصداقية. كذلك فإنّه، في الوقت نفسه، لم يُستَثْمر فانتازياً لإنتاج دوّامة عنف متوتّرة ومُشوّقة، لينحصر تأثيره في إنتاج تمرّد كاريكاتوري بتصوّر فنّي مبتذل.

المساهمون